ثقافة التنمية.. وثقافة التغريب

التغريب الثقافي ظاهرة ثقافية، وفكرية، ظهرت عالمياً ودولياً بفعل تأثير العالم الصناعي المتقدم على العالم النامي (العالم الثالث). في مقاربة طبيعة ظاهرة التغريب الثقافي بأسبابه، ودوافعه نقول: هناك مظهران لهذا التغريب هما: (التغريب الفكري، والتغريب الحضاري).. بمعنى أشمل تأثير الحضارة الغربية، بشقيها الغربي والأمريكي، في مرحلة معينة من الزمن في تغريب شعوب العالم الثالث، ومحاولة استلابها من ثقافتها الوطنية، والقومية، ومازال هذا قائماً. في مستوى تأثير الغرب.

هذا في المقاربة العامة لمصطلح (التغريب)، ومرادفه الثاني المطابق/ الاغتراب الثقافي وبعده المجتمعي/، وهذه الحالة تنسحب على الشخص، أو المجموعات الذي أو الذين اغتربوا عن ثقافتهم، وحضارتهم الأصلية، وأصبحوا ينطلقون من أفكار وثقافات تنتمي إلى الحضارة الغربية، وغدوا مبهورين بهذه الثقافة الغربية، وقد غزت قلوبهم، فتعلقوا بها، وأصبحوا في موقع الدفاع عن نظامها السياسي، ويطعنون بجدوى ثقافتهم الأصلية، وهويتها، وقد ينزلق بعضهم ليصبح أداة فكرية، وثقافية بيد بلدان الغرب، وسياستها.

ويغدو حامل (التغريب) غريباً في ميوله، وعواطفه، وذوقه، وعاداته، وأساليب حياته، ويرتقي التغريب لدرجة الاندماج والتوحد الكامل مع الثقافة الغربية عقلاً، وسلوكاً، ولغة. والتاريخ الإنساني حافل بمظاهر، وأشكال التغريب المختلفة الحاصلة بسبب الغزو والاحتلال والفرض، والإحلال، والغزو الثقافي وتبعاته الاقتصادية، والاجتماعية، وأنماط التنمية الموجهة أو ما يسمى (المستوردة). إن (التدفقات السلعية) وظاهرة الوافد الاستهلاكي، والحملات الدعائية المرافقة له، ولمواصفاته، إذ الملابس تغدو غاية لا وسيلة لاتقاء البرد، أو الحر.. بل تغدو رمزاً للرجولة والأنوثة. والأطعمة تغدو للتميز لا للغذاء وحاجات الجسم، كما (الهمبرغر) و(البيتزا) وغيرها. هذه أمثلة قليلة. (السلع) تغدو حاجات عاطفية، أو وهمية، وأهم صفة هي التغير، والسرعة، و(الموديل)، والاستهلاك. وينشأ نمط دعائي يملك القدرة على تطويع المستهلك، وجذبه، خصوصاً فئة (جيل الشباب). يترافق ذلك كله بهجوم على الكيانات الوطنية والقومية، وثقافتها، ومحاولة تجزئتها، وإزالة مناعتها أمام الوافد الاستهلاكي الاغترابي.

إن قيام تنمية حقيقية، ومستقلة في العالم الثالث، يجب أن ترافقها رغبة ذاتية وإرادة ذاتية وإثبات للذات الوطنية ومجتمعها، وأنها ليست أقل من الأمم الأخرى.

وهذا /عامل ثقافي/ كثيراً ما تتجاهله، أو تجهله لغة الاقتصاديين، وأرقامهم. فالتنمية اليابانية ونهوضها، والصينية، وغيرها.. لم يغب فيها عامل/ الذات الوطنية، وخصوصيتها الثقافية/، ولم تغلب فيها ثقافة الاندماج العولمي، وتبعاتها على الكيانات الوطنية وسماتها. إن نهضة عامة لبلدان /العالم الثالث/ لا يمكن حدوثها بتغييرات ميكانيكية منعزلة، تحدثها سياسات اقتصادية معينة، بل تحتاج كمشروع نهضوي وتنموي إلى /قوة دافعة/ قادرة أن تمتد إلى جميع جوانب الحياة الاجتماعية. هذه القوة ليست مادية، بل هي اجتماعية، إرادية، واعية، عقلانية، تشعل حماسة الناس للقضية ومشروعيتها، وترفع سوية الاستعداد، والتضحية، ودوافع العمل لإنجازها.. فيها يفكر الفرد بمن حوله وبعقلية الأنا الجمعي، وتغيب الأنا الفردية وحسابها أمام اتساع مساحة المشروع وبنائه، وينظر بعيون المستقبل كما بعيون الحاضر، وحسن قراءته ومراجعته ونقده، وتصويبه، وهذا لا يلغي لغة الاقتصاد والأرقام، بل يؤسس للالتفاف حول مشروعيتها الوطنية.

في هذا المناخ يُعتز بالثقافات الوطنية والقومية، ويُشتغل على مشروع إحيائها، وتبدأ إحيائية قومية من /اللغة والنهوض بها/، وبإنتاجها الثقافي، والمعرفي.. إلخ، مستلزمات النهضو المادية إنها (الإرادة الحضارية)، وعوامل نهوضها، واستحضار أسبابها. إنها مشروع النهوض، وشرعيته الوطنية، والقومية، وأدواته، والملتفون حوله من كل الأدوات والفئات القادرة على الفعل، والقول، والعمل.

إنه الانطلاق من (الذات) وعبر أدواتها، إنه خيار النهوض، إنها (ثقافة التنمية)، وللتنمية ثقافتها، والتفافها المجتمعي.

العدد 1105 - 01/5/2024