في رثاء البياض

في رثاء البياض
حسين خليفة
منذ أن خطّ الإنسان أولى رسومه على جدران الكهوف كان يريد في لا وعيه ربما إيصال فكرة إلى الآخر، الآخر البعيد مكاناً أو زمانا بالدرجة الأولى.
هكذا بدأت مغامرة الكائن البشري مع الحرف.
لكل منّا ذاكرة تَعَرّفهُ الأول على الكلمة المكتوبة على الورق، متعة التهجئة الأولى لأسرار البياض وهو يتلون بأرواح الناس الذي “خطوا سطراً” وخلدوه على الورق.
في قرية نائية بأقصى شمال شرق البلاد، لم تكن قد عرفت الكهرباء بعد، ولم تكن ثمّة وسائل اتصال طبعاً، وفي المدرسة الطينية التي بناها رجال القرية، في القرية الكردية المسلمة، علَّمنا معلمٌ عربي مسيحي من مشتى الحلو، فكّ طلاسم الظلمة بداية، تعلمنا الحرف على يديه نحن الذين لم نكن نتخيّل وجود هذه المسافة بين قريتنا وبلدته، فقد صار واحداً منّا.
عدا الكتب المدرسية كان في بيتنا كتاب وحيد هو القرآن، ثم تسرّب إلينا من الرجل الوحيد الذي كان يقرأ في القرية كتاب غريب عجيب: “رأس الغول”، كان الرجل حكواتي القرية بكتابه المصفر هذا، وكان أن التهمته بسرعة، قرأته مراراً، حفظت أجزاء كثيرة منه، ثم جاءت قصة الإسراء والمعراج، القصة الأسطورة، وقصة المولد النبوي، ثم كانت الرحلة الأصعب والأمتع مع القرآن، ذلك الكتاب الذي أدّعي أن لا بدّ منه لكل من يريد امتطاء صهوة اللغة.
هكذا دخل الورق المكتوب دهاليز الروح واستوطن فيها، كنّا إذا وجدنا ورقة مرمية على أزقة القرية الترابية نقرؤها من الألف إلى الياء حتى لو كانت غلاف “بسكوتة” أو منتج ما.
أتذكر جيدا ورق لف السكائر “شام” الذي كان المرحوم أبي يلف به تبغه ويمجّه بمتعة بالغة، كنت أمسك ما يشبه النشرة الدعائية المرفقة بورق السكائر وأقرؤها مراراً، حفظتها أيضاً عن ظهر قلب.
ثم جاءت المدينة الصغيرة بمكتباتها ومركزها الثقافي والأحزاب والمنظمات والخوف، دخلنا في الدوامة، وقرأنا ما تيسّر لنا من كتب وزارة الثقافة ومنشورات الأحزاب السرية ونصف السرية، ومنشورات البعث والشبيبة التي كانت توزّع علينا في المدرسة، مجلات “الشبكة” و”الموعد” و”ألوان” التي كانت تُغذّي توقنا المراهق لرؤية أجساد الفنانات وعارضات الأزياء إضافة إلى أخبارهن، ثم تعرّفت على مجلة “هنا دمشق” وكانت تعطي زاداً ثقافياً محترماً إضافة إلى أخبار الفن، أتذكّر أني تعرفت فيها على القامة الفكرية السامقة المرحوم عبد المعين الملوحي، وصرت أنا وصديق لي يتابع المجلة أيضاً نستعيد كل ما كتبه الملوحي في العدد الذي يصلنا متأخّراً دائما لسوء خدمة البريد وبطئها حينذاك، عرفت حينها أنه شيوعي، ويحب الناس، ويحب النساء أيضاً، وأحببته.
صار الورق متعتنا الأجمل.
في الزمن الحاضر الذي أرفض تسميته بالأغبر أو الرديء كما يفعل الكثيرون، فله جمالياته ونوافذه المضيئة، في هذا الزمن بدأ الورق ينسحب أمام طغيان الشاشة المضيئة، أمام سهولة الوصول للمعلومة، وحفظها ليس في تلافيف العقل والروح، إنما في مجلدات على الحاسب أو على “الفلاشة” أو “الهارد” وسواه.
ينسحب الورق ببطء، يقاوم الغياب بفعل سطوة الذاكرة، لكنه يُخلي الساحة لما هو أسهل وأسرع وأوسع، ولا يستقرُّ في الذاكرة، نفتقد معه ملمس الورق ومتعة تبليل الإصبع لقلب الصفحة وكأنك تقبّلها قبل أن تطويها.
في معرض الكتاب السنوي بدمشق كما في كل معارض الكتب، تجد كتباً وعناوين كثيرة معروضة، ولدينا نحن جيل الكتاب الورقي على الأقل توق حقيقي لاقتناء الكتاب، لكن الفقر وغلاء سعر الكتاب يقف حائلاً دون تحقيق رغبات عشّاق الحرف، وهم فقراء في غالبيتهم المطلقة، لكن لا بدّ أن تخرج من المعرض ومعك صيد ما من كتب لا تستطيع مقاومة شرائها، وللأمانة فان وزارة الثقافة ملاذ للقراء الفقراء، لكن تعوز منشوراتها التنوع المطلوب وفسحة الحرية الموجودة في منشورات دور نشر خاصة ومعروفة.
أظن رغم هذا التقدم الكاسح للكتاب الالكتروني والجريدة الالكترونية، أنه لا بدّ من الكتابة الورقية والصحافة الورقية، ليس كنوع من الحنين إلى زمنٍ وضيء فحسب، بل لضرورة التواصل بين الإنسان والحرف بغنى عن التقنية والحاسب والنت، ولحفظ الحرف في مكتبات المنازل لتقدم إغواءً للأجيال الجديدة في مراودته والاستنارة به، وخير جليس في الأنام هو حقيقة هذا الكتاب الورقي، فالكتاب الالكتروني ليس جليساً، إنه ضيف طارئ.
husenkhalife@hotmail.com

العدد 1102 - 03/4/2024