مفارقات في المشهد اليساري الراهن

مصححة
مفارقات في المشهد اليساري الراهن
طلال الإمام
الرفيقات والرفاق
الحضور الكريم!
اسمحوا لي بداية أن أتقدم بالشكر الجزيل إلى الحزب الشيوعي السويدي، لاستضافة اللقاء اليساري الثالث في مقره المركزي، ولجميع المساهمين في هذا اللقاء سواء بالحضور أو إرسال مداخلات.
جاء في ورقة العمل الموزعة مسبقاً: (إن الموضوع الذي سيتم تداوله والحوار حوله حصراً هو التالي: من هو اليسار؟ ما هو تعريف اليسار في خضم ما يجري من أحداث دولية، إقليمية، ومحلية؟ ماهي أدواره، ونشاطاته، ومواقفه؟ كيف يمكن لليسار استعادة دوره؟).
لن أتطرق إلى مجمل تلك النقاط لاعتقادي أن التطرق إليها يأخذ حيزاً كبيراً وأن المداخلات الاخرى ستجيب على معظمها، هذا من جهة، ومن جهة ثانية لن أدخل في تعريف اليسار ودوره التاريخي لأن من السهل الرجوع إليه لمن يرغب وهو موجود على مختلف المواقع الإلكترونية وفي العديد من المطبوعات.
سأتوقف عند بعض المفارقات والأسئلة مثل لماذا ينكفئ اليسار؟ وكيف يمكن له استعادة دوره التاريخي؟ دون أن أدّعي تقديم أجوبة ناجزة وإنما محاولة فهم الأسباب وكيفية الخروج من المأزق كي يستعيد اليسار ألقه.
(بودّي الإشارة إلى أن تعبير اليسار أينما ورد أقصد به: الشيوعيين، الماركسيين، الديمقراطيين، العلمانيين، نشطاء حركات السلم، الحركات النسوية، والمثقفين والمفكرين سواء كانوا أحزاباً، هيئات أم أفراداً).

المفارقة الأولى
يعاني النظام الإمبريالي النيوليبرالي القائم على النهب وإشعال الحروب من أزمة بنيوية، وهو ما يتبدى في تفاقم أزمته الاقتصادية من حيث ازدياد العاطلين عن العمل، الخصخصة التي تقضي على مكتسبات شعوب تلك البلدان التي حصلت عليها عبر نضالات واسعة، تعاظم الفروقات الطبقية في المجتمع، تزايد الجريمة بمختلف اشكالها. هذا كله يدفع ذلك النظام لمحاولة إطالة عمره، بإذكاء حروب وصراعات دينية وإثنية خارج حدوده.
المنطقي أن تكون تلك الظواهر عاملاً مساعداً على زيادة دور اليسار المعروف عنه تاريخياً أنه يضم قوى السلم والطامحين للعدالة في توزيع الثروات الوطنية، وقوفه إلى جانب المستضعفين في المجتمع، والعمل على تحقيق المساواة بين الجنسين، قوى الديموقراطية والعلمانية.
لكن ما نلاحظه هو العكس تماماً على المستويات المحلية الإقليمية والعالمية: اليسار مأزوم، مشرذم، يتراجع دوره بين أوساط حتى من يدافع عنهم وبشكل خاص الشباب.
لماذا؟
هل السبب هو انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية التي كانت سنداً مادياً ومعنويا لليسار؟
أم أن السبب في تعاظم مختلف أشكال القمع، التضييقات والملاحقات والحملات المنظمة ضده؟
علماً أن هذا الأشكال كانت موجودة دوماً، ورغم ذلك كان لليسار دور ملموس في مجمل الحياة السياسية فترات طويلة، هل الأسباب ذاتية ام موضوعية؟ إذاً لماذا؟

المفارقة الثانية
يتعاظم في العالم ومنطقتنا خصوصاً تأثير التيارات الدينية السلفية/ الرجعية، وبرز وجهها الأكثر بشاعة في الوهابية، داعش، الإخوان المسلمون وأشباههم. أما أوربياً / عالمياً فهو يتبدى على شكل ظهور التيارات الفاشية والعنصرية والنازية الجديدة التي وصلت إلى بعض البرلمانات، وإلى سدة الحكم (ديموقراطياً) وفق المفهوم البرجوازي.
المنطق يقول إن من المفروض تجذّر وتمدّد اليسار أكثر كرد فعل طبيعي على تنامي تلك التيارات الرجعية. لكن ما نشاهده هو العكس، مرة أخرى لماذا؟

المفارقة الثالثة
وهي برأيي الأكثر إيلاماً، وتتمثل في أن بعض المناضلين اليساريين سابقاً (حتى بعض الأحزاب) تخلوا عن مرجعيتهم الفكرية/ الماركسية وتحولوا إلى الخندق الآخر. بعضهم تحالف مع التيارات الدينية الأشد رجعية (من إخوان مسلمين، نصرة، داعش وأشباههما). إلى درجة أنه صار يدافع عن السعودية، ويقيم علاقات ويتعاون مع محتل أراضيه (إسرائيل، تركيا، أمريكا وغيرها). بل وصار يدافع عن الليبرالية الجديدة ويبشّر بقبر الماركسية، علماً أن بعضهم تعرض سابقاً للسجن والملاحقة دون أن يتخلى عن يساريته! تُرى لماذا؟

المفارقة الرابعة
إن الظروف الدولية، الإقليمية أو المحلية تفرض على قوى اليسار أن تلتقي على برنامج الحد الأدنى، لمواجهة المشروع الديني الفاشي المدعوم من قوى الإمبريالية العالمية والرجعيات المحلية ومحاولاتها، كما في سورية والعراق، تأجيج التجييش الدين/الطائفي او الإثني، إضافة إلى العمل على تقسيم الأوطان وضرب الدولة الوطنية التي تشكلت بعد نيل الاستقلال السياسي.
فماذا نجد؟
نحد أن اليمين بمختلف أشكاله يتعاون بعضه مع بعض بصيغ مختلفة، بينما عموماً قوى اليسار منقسمة، مشرذمة، تتناحر فيما بينها، تتبادل الاتهامات، لا يجمعها حتى خطر تفتيت أوطانها او المشروع الديني الفاشي. مرة أخرى لماذا؟

المفارقة الخامسة
بعض اليسار لا يجد صعوبة في التحالف، بأشكال مختلفة، مع قوى في الضفة الأخرى بل ويهرول نحوها، بينما تصيبه العنعنة ويضع شروطاً تعجيزية عندما يتعلق الأمر بالتعاون أو اللقاء ولو بالحد الأدنى مع أن المفروض أن يكون معهم في خندق واحد لمواجهة التحديات الراهنة. لماذا؟
إن ما ذكر أعلاه لا يعني أبداً نكران النضالات التي تخوضها مختلف قوى اليسار. هذه القوى متجذرة في مجتمعاتها لكنها في حالة كمون. الهدف من أسئلتنا هو وضع هذه القوى أمام نفسها كي تستعيد دورها التاريخي المنوط بها كقوى للتغيير والتقدم نحو مجتمع علماني، مدني وعادل في توزيع الثروة.
ثمة أشكال عدة برأينا لإنجاز مهمة عودة الناس لليسار، أو عودة اليسار للناس.
ثانياً – إقامة تحالفات ثنائية وجماعية بين قوى اليسار عبر إقامة نشاطات مشتركة.
ثالثاً – السعي نحو إنجاز برنامج الحد الأدنى بين مختلف فصائل اليسار وصولاً إلى إقامة تحالفات، جبهات أو لجان مشتركة لمواجهة الديكتاتوريات والفاشية الدينية والتحديات الماثلة أمام مجتمعاتها (أمية، فقر ومرض).
البحث عما يجمع اليسار وليس ما يفرقه.
رابعاً – تنشيط العمل الفكري التنويري بين أوساط النساء والشباب خصوصاً لمواجهة الفكر الرجعي السلفي.
خامساً – استخدام جميع الوسائل المتاحة والممكنة لنشر أفكار العلمانية ومواجهة التجييش الديني، الطائفي أو الإثني.
سادساً – إنهاء، وقف أو تأجيل أية خلافات هامشية بين فصائل اليسار والتركيز على ما يوحدها.
سابعاً -عدم نسيان أن العدو الرئيسي لشعوبنا مازالت الصهيونية وسياستها التوسعية الاستعمارية.
ثامناً – عدم إسقاط هدف الوصول إلى الاشتراكية من برامج اليسار.
تاسعاً – تنشيط العلاقات بين مختلف فصائل اليسار على المستويات المحلية، الإقليمية والعالمية.
عاشراً – ابتكار أساليب جديدة في العمل السياسي والجماهيري تتناسب وظروف كل بلد دون التخلي عن الأساس الفكري.
رب قائل إن هذه المهام صعبة التحقيق ضمن الظروف المعقدة التي تمر بها بلداننا والعالم، هذا صحيح والمطلوب ليس تحقيقها كلها دفعة واحدة، وإنما الأمر متروك لليسار في كل بلد كي يبدأ باي خطوة ممكنة مهما بدت صغيرة من أجل تحقيق تراكم يؤدي إلى التغيير المنشود.
أخيراً على قوى اليسار أن تأخذ موقعها في العالم الجديد الذي يشق طريقه، العالم القائم على تعدد الأقطاب على أنقاض مرحلة القطب الواحد الذي سيطر عقوداً من الزمن مخلفاً ويلات، وحروباً وكوارث في منطقتنا والعالم مازلنا نعاني من آثارها.
إن ما يوحد اليسار أكثر بكثير مما يفرقه. لنتخلص من ضيق الأفق التنظيمي، من سيطرة عقلية العشيرة من التشرذم، من الأنا القاتلة، من الادعاء بأن كل فصيل يساري يملك الحقيقة كاملة، لنتوقف عن تبادل التهم التي تصل أحياناً إلى حد تهمة الخيانة، والتحريف وما إلى ذلك.
هذا إذا كنّا نطمح فعلاً كقوى يسارية للتغيير المنشود لما فيه مصلحة شعوبنا كما ندعي.
وإلا فإن حكم التاريخ علينا جميعاً سيكون قاسياً ولن يرحمنا.
هل نفعل؟ نأمل ونعمل.
شكراً لإصغائكم!

العدد 1104 - 24/4/2024