بعض الحدود المعرفية في مسألة الدولة المدنية

كان الغزو الأمريكيّ للعراق عام 2003 منعطفاً هاماً، وأساسيّاً في سلسلة انكسار المشروع القوميّ العربيّ منذ الحرب العالمية الأولى. وعد بلفور- سايكس بيكو- نكبة /1948/ وإقامة الكيان الصّهيوني، فشل وحدة 1958 السّورية المصريّة.. نكسة 1967 ، والاحتلال الجديد- رحيل الرئيس عبد الناصر- غزو لبنان 1982- قبله (كامب ديفيد)، وخروج مصر من معادلة الصّراع العربيّ الصّهيونيّ إلى غزو العراق، وتحطيم بناه الاقتصادية، والاجتماعية، حيث تراجع المدّ القوميّ، كما تراجع مشروع بناء (الدّولة الوطنيّة الدّيمقراطيّة).

في حين نشط اتجاه الصّلح مع (العدو الصهونيّ) بعد خروج مصر تحت عنوان (التسّوية، والتّعقل، والواقعيّة. إذ جاءت اتفاقية (أوسلو) وما أدت إليه فلسطينياً، كما احتدمت الخلافات داخل التّيارات القوميّة، وتحديداً الخلاف السّوريّ العراقيّ في فترة الثّمانينيات، وقبلها، وما أدى إليه.

في ظلّ الغزو الأمريكي للعراق، وتدمير الدّولة انطلقت الهويات الإثنّية- الدّينية في المنطقة العربيّة، وكان مشروع الشّرق الأوسط الكبير الذي طرحه جورج بوش الابن عام ،2004 وهو مشروع قديم، وجديد، تبناه المحافظون الجدد في الإدارة الأمريكيّة. وهم في جوهرهم ينظرون إلى العالم العربيّ والشّرق الأوسط، أنّه تجمع لأقليات دينيّة، وعرقية عاجزة عن العيش معاً في كيانات وطنيّة، ولا مانع من إقامة دويلات طائفية في المنطقة. هكذا يريدون اختصار الشّرق الأوسط إلى مجرد        (أقليات). شجّعت الولايات المتحدة، وحلفاؤها هذه النزعات، في لبنان، وفي العراق، واليوم يحاولون إذكاء هذه النّعرات في سورية لتمتدّ في كامل الوطن العربي إلى صراعات لا تنتهي.

مع دخول ما سمي (الرّبيع العربيّ) عامه الثالث، واستمرار تردي الأوضاع في العالم العربيّ، إذ مصر اليوم في نزاع أهلي قد يمتد إذا لم يحصل التعايش بين النظام الإخواني الحالي، والمعارضة الليبرالية، واليسارية، والقومية.

والكيانات الوطنية مهتزةٌ في تونس، وتحديداً في ليبيا، فلا معالم دولة، وهناك السّلاح، والأصوليون، والفوضى. والغرب لا يهمه قيام (دول مدنية) ذات سيادة في الشّرق الأوسط.

– السّؤال: ما هي مرتكزات الدّولة المدنّية؟

في المبدأ الدّولة المدنية تقوم على دستور، ومنظومة قواعد، تشريعية، وتنفيذية، وهذه بمجملها تبلور جملة القيم والأسس التي ارتضاها أفراد المجتمع لبناء النّظام السياسي والاجتماعي.

والدّولة المدنيّة هي أيضاً دولة (مؤسسات) تقوم على مبدأ (التّخصص)، أي مبدأ فصل السّلطات. إذ تمارس كلّ سلطة مهامها، ولا تتجاوز حدودها.

من المعالم الأساسيّة للدّولة المدنيّة وجود (مجتمع مدنيّ فاعل)، ومؤسسات مدنية فاعلة للنّهوض بمستوى الوعي السّياسي، والمجتمعيّ، والمشاركة، والرّقابة، والنّقد، وغير ذلك.

في الدّولة المدنّية يتحرر الأفراد من الرّوابط، والعلاقات ما قبل الوطنيّة: كالعشائريّة، والعرقيّة، والمذهبيّة، والطّائفيّة، وبالتالي الاندماج في فضاء اجتماعيّ، وثقافيّ، وسياسيّ مشترك هو (الفضاء الوطنيّ).

الدّولة المدنيّة لا يمكن أن تكون إلاّ دولة ديمقراطيّة يشارك فيها جميع المكوّن الوطنيّ. فهناك حقوق الإنسان وحقوق المواطن، وصناديق الاقتراع، والتداول السّلمي للسّلطة في دولة (الشّعب). وهي ليست دولة عسكريّة أو دينية. إنّ الإدارة، والسّياسة، والاقتصاد، والقانون هي تخصصات وليست فتاوى أو قضايا شرعيّة يختصّ بها رجال الدّين.

الدّولة المدنية لا ترفض (الدّين) ولكنّها ترفض (استغلال الدّين) لأغراض سياسيّة، وإضفاء القداسة على الطروح السّياسية. والإسلام يفرّق بين الوحي، والاجتهاد، فلا يعطي للاجتهادات القدسيّة، وإنّما يقبلها بقدر ما تقدم من حجج على صحة الفهم، والتّفسير  (للكتاب، والسنة). والدّولة المدنية ترى الجانب الرّوحيّ، والأخلاقيّ في الإسلام، ولا تريد زجّه في الألاعيب السّياسية.

الدّولة المدنية دعوة للانفتاح، ودعوة لاستيعاب الحداثة، ومن منظومة حقوق الإنسان إلى بناء الدّولة العصريّة، ومستلزماتها الاقتصادية، وهي تركز على الحريّة، وممارستها. والحرية عموماً غائبةٌ عن الفكر العربيّ والممارسة السّياسية العربيّة، إنّ عودة موجة (الإسلاموية) بهذه العناوين أيقظت قضية الطّوائف، والمذاهب، والثنائيات، والانقسام في الشارع العربي، والعودة للعصبويات الضّيقة بدل الاندماج القومي.

فعلى جميع التّيارات الإسلاميّة أن تكون جزءاً من المجتمع المدنيّ الدّيمقراطيّ التّعدديّ، والبعد عن فكرة التّحكم بالسّلطة بطريقة انتقامية. وحتى لو كان الوصول انتخابياً لا يحق لهم فرض رؤيتهم الإسلامية على كامل المكوّن الوطنيّ لأي بلد عربيّ أو غيره.

إنّ الكثير من التّطلعات الحبيسة لجماعات، وأقليات قد برزت في الحال العربيّ، واستيعابها، وتعبيراتها تكون عن طريق الدّولة المدنيّة الدّيمقراطية، حتى لا تتحول إلى مجموعات تطرف، وغير ذلك، وتصبح جزءاً من خلل الدّولة، وعدم سلامتها.

العدد 1105 - 01/5/2024