كيف أصبحت دمشق تاريخياً التفاحة الحمراء للعثمانيين؟

التعامل مع المادة التاريخية المتعلقة بتاريخ منطقة الشرق الأوسط كالتعامل مع المتفجرات الشديدة الحساسية، القوية الانفجار، الشديدة التدمير، وخصوصاً الفترة المتعلقة بالتاريخ الإسلامي، لتمازج الديني بالتاريخي، فلا تستطيع مقاربة أحدهما دون أن تعرض نفسك لجريمة التعرض للدين و لرموزه المقدسة من أصحاب مؤسس الدولة ومبلّغ الرسالة. وينسى ناقضوك ومهاجموك أن صاحب الرسالة ميّز بين شخصية الرسول الإنسانية، كشخص له إحساس ومشاعر، وشخصيته الاعتبارية كحامل لرسالة السماء. هذا المزج بين الديني والدنيوي سمح فيما بعد بعمليات تحوير في آيات وأحاديث كانت لها تأثيرات بالغة السوء على الجغرافيا السياسية والبشرية للمنطقة، حيث كانت الميدان المناسب لكل مغامر باحث عن الشهرة والمجد والثراء تحت عنوان الدفاع عن الأمة وإحياء السنة وحماية الملّة، ووجد من يسير في ركابه من ذوي النفوس الضعيفة من خدام موائد السلطان.

قد تكون المقدمة ضرورية عند بداية الحديث عن آخر خلافة إسلامية، من بداية تكوينها إلى اليوم الذي قام مصطفى كمال أتاتورك بأداء صلاة الجنازة عليها يوم 30 تشرين الأول (أكتوبر) ،1923 الموافق ل 20 ربيع الأول 1342 ه.

لكل دولة من دول العالم نصب للجندي المجهول. هذا الجندي المجهول الذي رسم بدمه أولاً، وعرقه ثانياً، معالم الطريق للآتين من بعده. ومن مفارقات التاريخ المبكية أنهم هم أصحاب الإنجاز الحقيقي الذي سُجِّل باسم غيرهم. وهذا ما حصل صبيحة 29 آذار (مارس) 1453 م على أبواب القسطنطينية، حلم الأتراك الأكبر، وغاية طموح الشاب محمد الذي كان يبحث عن تفاحته الحمراء التي استعصت على بني قومه. متسلحاً بأعظم إنجازات العلم في ذلك الوقت (المدفعية)، وبجيش يعدّ من أحسن جيوش العالم في ذلك الوقت. بدأ الشاب يحس بوطأة الوقت وهو يرى قوات الرومللي تتدمّر على أسوار القسطنطينية دون أن تحقق هدفها في استنزاف المدافعين، وما زاد من صعوبة الموقف، رؤيته لفرق العاصفة فخر القوات العثمانية، التي ينتسب أفرادها إلى سكان الأناضول، الخزان البشري للعشائر التركية وقاعدة السلاطين العثمانية الأولى، تخفق في إحراز أي موقع قدم لها على السور، بل تكاد أن تتدمّر وتفنى.

وفي الساعة الواحدة من فجر يوم الثلاثاء 29 أيار 1493 وعلى أنغام الموسيقا العسكرية التركية، وتحت حماية ورعاية طوطم الأتراك المقدس (الذئب الرمادي)، أرسل الشاب محمد فخر قواته ونخبة حراسه للقيام بالهجوم الأخير. ومن مفارقات القدر أن يتمكن 30 عنصراً من الوحدات الانكشارية، بقيادة شاب لا يعرف التاريخ سوى اسمه حسن طولوباتلي، من تسلق أحد الأبراج والتمرّكز فيه. قتال حسن الانتحاري هو ومن معه سمح لباقي القوات بأن تدخل المدينة وتحتلها على جثته هو رفاقه. وهكذا دخل الشاب التاريخ باسم السلطان محمد الفاتح  ودخل البرج التاريخ باسم برج حسن.

وعلى ضفاف البوسفور ، جلس السلطان محمد  الفاتح يتلذذ بطعم التفاحة الحمراء، بعد أن احتل إحدى عاصمتي العالم المسيحي آنذاك: القسطنطينية. وهو يحلم بتفاحته الحمراء الثانية (روما)، ولكن كمؤسس للدولة وواضع لأركانها عرف أنه لتحقيق حلم بني قومه الثاني عليه أن يحكم سيطرته على الشرق ببعده الأسطوري الحالم، وقوته الناعمة المتمثلة بالإسلام، الذي من يتحكّم فيه، يتحكّم بخزان بشري هائل وموارد اقتصادية غير منتهية من زراعة وصناعة وتجارة، وشتات من القبائل والمدن تبحث عن قيادة قوية تعيد لهم إحساسهم بالقوة والفخر. ولكن كي يسيطر على الشرق عليه أن يجد الباب، ومرة أخرى كان الذئب الرمادي هو من أعطى الأتراك العنوان المناسب، ودلّهم على التفاحة الحمراء الجديدة. وكانت هذه التفاحة الجديدة هي بوابة الشرق …. دمشق.

في 24 آب 1516م، تواجهت القوات العثمانية بقيادة السلطان سليم الأول والقوات المملوكية بقيادة السلطان قانصوه الغوري على سهول مرج دابق(*) شمال مدينة حلب، لتختتم فصلاً أسود في تاريخ العرب والمنطقة. فصلاً ابتدأ ببحث العرب عن مصادر القوة والسيطرة ، وقادهم ذهنهم التجاري إلى شراء قوات مسلّحة تقوم بدلاً عنهم بواجب القتال، ليتفرغ البعض للتمتع (بالكاس والطاس والليالي الملاح)، وليتفرغ البعض الآخر للقراءة والعبادة والاهتمام بأمور السماء. فنسوا أن أهم واجبات القادة هي دراسة فنون الحرب وعلومها باستمرار، والتدرّب والمران على فنون الضرب والطعان دون تكاسل أو استهتار، ووضع الخطط والاحتمالات، تحسّباً للمجهول القابع في غياهب المستقبل. فكانوا الشعب الوحيد الذي ذهب إلى أسواق العبيد والرقيق كي يشتروا من هناك من أمّروهم على مقادير البلاد والعباد. قدموا لهم الطاعة والولاء  وأخذوا في مقابل ذلك حق استنشاق الهواء.

بدخول السلطان سليم إلى دمشق، قدّم جميع أمراء الإقطاع في بلاد الشام والحجاز فروض الطاعة والولاء للخاقان العثماني الأعظم. وكمكافأة على ذلك ثبّتهم في مراكزهم وأمّنهم على أموالهم ، ونقل كل الحرفيين والصناع المهرة ورجال الفكر والأدب إلى عاصمة ملكه إسطنبول. وبذلك دخلت المنطقة في فترة سبات شتوي، عنوانها الأبرز كان الجهل والتخلّف، امتدت لنحو 400 عام من الجمود الفكري والجدب العلمي.

ومع بدايات القرن العشرين بدأت الحياة تعود إلى دمشق، وبدأت دماء العروبة تسري في عروقها من جديد، لتقود التمرد على سياسة التتريك التي انتهجتها جمعية الاتحاد والترقي التي ترجع أصولها إلى مجموعة أسست عام  1865 تحت اسم (العثمانيين الجدد). وفي أحياء وأزقة دمشق الجانبية دار الصراع الأول بين الروح العربية، المنبعِثة من تحت رماد الظلم والاستبداد، وبين الروح العثمانية التي تريد استرجاع عظمتها القومية على حساب دماء الشعوب الأخرى ودموعها. وكان الانتصار للعرب الذين ميّزوا للمرة الأولى بين الدين والقومية، وأعلنوا أن الدين لله والوطن لجميع أبنائه. وأن العدو يمكن أن يتنكر بثوب الدين ليستعبد أمماً ويسترّق شعوباً.

وبعد أن هُزمت الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ودفعها إلى حدودها الحالية، كان الهدف الأساسي للقادة الأتراك إعادة بناء الثقة لشعب فقد كل شيء أولاً ، ومن ثم إعادة بناء للدولة التي أنهكت في الحرب ثانياً. وتصدّى لهذه المهمة مصطفى كمال أتاتورك الذي رفعه الأتراك إلى مصاف الأبطال الأسطوريين، وخليفته عصمت إينونو. وعند الانتهاء من عملية البناء عادت التفاحة الحمراء إلى مداعبة خيال الساسة الأتراك، هذه المرة للاندماج في أوربا، على اعتبار أن تركيا عضو مهم في الناتو، وعلى أراضيه توجد إحدى أهم القواعد الأمريكية التي كانت الخط الدفاعي الأول عن منطقة أوربا الوسطى والشرق الأوسط، ونقطة الوثوب إلى آسيا الوسطى والقفقاز. ولكن قواعد لعبة الأمم شاءت لتركيا أن تكون بيدقاً، بينما أراد الأتراك أن يكونوا الحصان الأسود في هذه اللعبة، وشتان بين ما نريد وما نحصل عليه.

الهوامش:

(*) في 24 آب 1516م جرت أحداث معركة مرج دابق بين الأتراك العثمانيين بقيادة السلطان سليم الأول، والمماليك بقيادة السلطان قانصوه الغوري، شمال مدينة حلب السورية، حيث هزم المماليك وتوفي قانصوه الغوري من الصدمة. دارت رحى المعركة وانتصر الجيش المملوكي في البداية وقتل من الجيش العثماني ما يزيد على عشرة آلاف جندي، وأسر الكثيرون وخارت معنويات السلطان سليم، وهمَّ بالتراجع والفرار لولا خيانة بعض المماليك التي قلبت الموازين، فقد سرت شائعات كاذبة بين الجنود المصريين أدت إلى الفرقة بين المماليك وفرار بعضهم، ومنهم الخائن (خاير بك) أحد القادة الكبار في جيش المماليك. فاسترد العثمانيون معنوياتهم واستأنفوا القتال بحماسة. وتفرق جيش الغوري وتراجع وقتل الكثير منه، ولكن الغوري بقي في موقعه ولم يتراجع وراح ينادى جنوده بالصمود في وجه الغزاة. لكنه رأى كبار قواده يتخلون عنه عمداً، وتجلت الخيانة بأقبح صورها، فأصابه شلل في أطرافه وسقط من على فرسه. وقيل بأن الخيل داسته، وأن رجاله المخلصين فصلوا رأسه حتى لا يتعرف عليه العثمانيون ويمثلوا بجثته. ولم يعرف أحد على وجه اليقين أين ذهبت جثته. واستمر هجوم العثمانيين حتى وصلوا إلى القاهرة، وحاربوا آخر سلاطين المماليك الأشرف طوماي وهزموه في 22 كانون الثاني 1517 في معركة الريدانية قرب القاهرة وأصبحوا يسيطرون على سورية وفلسطين ومصر، بينما أهداهم شريف مكة في الحجاز مفاتيح المدينة المقدسة اعترافاً منه بسلطة سليم الأول المطلقة على العالم الإسلامي.

العدد 1105 - 01/5/2024