ثنائية الشعب والسلطة بعض الإضاءة في المفهومين

الخطاب (التنويري) العربيّ على اختلاف تياراته: الوطنية، والقومية، والماركسية، والدّينية في توجهه للجماهير، وتحريكها لم يكلف نفسه تفحص عيناتها، وتمثلاتها في الواقع الملموس، ولم يكن هناك مراجعة نقدية تتعلق بتنظيمها، وتطويرها. إنّ هناك العديد من الإشكاليات التي تحيط بمفهوم الجمهور وبضمنه العلاقة بين الدّولة، والمجتمع، والفرد.

معروفٌ أنّ غالب الدول العربية نشأ على كاهل المؤسسات العسكريّة أو الخلفيات القبلية، لذلك فقد شكّك العديد من الباحثين بشرعية الكثير من الدّول العربيّة، والحديث عن إعاقتها للتّطور السياسيّ، والاقتصادي، والاجتماعي وبالتالي إعاقتها لإمكانية قيام مجتمع مدني.

بعض الدّارسين أحال واقع الدّولة العربيّة إلى طابعها القبلي، والرّيفي. وقلةٌ  من تحدثوا عن طابعها السّلطوي، وبالتالي تآكل بنيتها الدّاخلية، وغربتها عن مجتمعها، وتشوُّه الحياة السياسية في الوطن العربي، وغياب المجتمع عن دوره. وبالتالي سيطرة الجهات الحاكمة على مصادر الثروة، وتحكمها بمجمل التّطورات السّياسية، والاجتماعية، والاقتصادية. وهذا يحيلنا إلى أنّ مفهوم (الدّولة الحديثة) ليس إضافةً، وترفاً سياسيّاً بل هي حاجةٌ وضرورةٌ اجتماعيةٌ، لأن الدولة بالبعد التطوري المجتمعي هي ثورة، وتأسيس لمعنى المجتمع، ووجوده التّاريخي ككيان اجتماعي..لكن الذي جرى عملياً أنّ قدرات الدولة وظّفت للسّيطرة على المجتمع، والفرد في الوطن العربيّ عبر علاقات الهيمنة على التّعليم، والإعلام، والمنظمات، وتوزيع موارد البلاد. لذلك يرى الّدارسون أنّ (الدّولة التسلطية) أعاقت التّكون المواطني، والقومي، وحلّت مقولة (الجماهير) بمعنى (الرّعية) بدل المواطنية، ومضمونها التعاقدي. فقد تكرست العلاقة الرّعوية على حساب العلاقات المدنيّة، والمواطنية. يتبع ذلك في ممارسة الدّولة التسلطية إنتاج علاقات الإذعان، والخنوع في المجتمعات العربيّة، حيث يغيب القانون، وتسيطر مكونات السّلطة، وتصادر الحريّات، وغير ذلك.

في الجانب المتعلق بالبنية الاجتماعيّة العربيّة فهي بنى بالعام لم تتجاوز (البنى السّابقة) العشائرية والطائفية والمذهبية والإثنية إلى علاقات المواطنة المؤسسة على قاعدة الاندماج الوطنيّ في دولة المساواة والمواطنية.. من هنا يوصف المجتمع العربيّ أنه (مجتمع تقليديّ) يرتكز على العلاقات الأبوية البطركية، وينزع إلى الاستبداد، وهنا يعاني إنسانه الاجتماعيّ سلطوية الأنظمة السّائدة، وأزمة المجتمع المدنيّ.

المعضلة الاساسية  في المجتمعات العربية أنّها لم تحقق ذاتها في دولة قومية فحسب. بل لم تصل إلى حد الاندماج الاجتماعيّ على مستوى القطر الواحد. لذلك نرى الإنسان العربيّ يعبّر عن ذاته لا بانتمائه الوطنيّ لكن بانتسابه لطائفة أو فئة أوقبيلة.. وهذه قضايا تعيق عملية الاندماج المجتمعي في هذه البلدان، وبالتالي الانتقال إلى مسار (الحداثة) الذي هو مسار المواطنة، والدّولة، والعقل. وتبقى المجتمعات في حالة تفكك، واستنفار.

اللافت أنّ القوى التي تصدّت لعملية التّغيير لم تولِ هذه المسائل أهمية مناسبة في برامجها، ورأت أنّ مصطلح (الجماهير) واقع منجز وعندما بدأت الاهتزازات من احتلال العراق 2003م وما تلاه، كشفت عورات الواقع العربي، وطبيعة العصبيات القائمة فيه. هناك وجهات نظر تحيل ما حصل في الواقع العربي إلى طبيعة ما طرح في الفكر القومي من متخيل لا يمكن تخيله إلا كجماعة، أو قبيلة. وباعتبار المجتمع القومي، وثقافته غير مؤسسة، والولاءات الأخرى هي القائمة في البنية الاجتماعية. وهناك تناقض بين الشعار القومي، والممارسة المجتمعيّة على الأرض المنحدرة إلى مستويات الأنا، والعائلة، والمناطقية، وغير المرتقية إلى الاندماج الوطني والقومي.

وهناك في الواقع الاجتماعيّ العربيّ، الواقع الاقتصادي المعاشي حيث مستوى الفقر هو بين 25 إلى 30% من السكان، ونسبة البطالة عالية تتجاوز 20%، وهناك التشوهات في قطاع الاقتصاد والاستثمار، إضافة إلى النقص في الحريّة، والتّنمية، وتمكين المرأة.

لقد تريّفت المدن وأصبحت هوامشها ريفاً مزدحماً، ومكتظاً، وضيقاً ومحشوراً، وتضخمت المدن بسبب تزايد السّكان وهجرة الرّيف إلى المدينة. لقد تجاوز عدد سكان المدن مثلاً في العراق 77%، و90% في لبنان. وتسللت عقلية الرّيف إلى حداثة المدينة المشوّهة، فحصل خلطٌ طبقي هجينٌ أفرز الكثير من المشاكل، والاحتقانات، والتّباينات، والفروق الطبقّية. وازداد الفقر في المدن، وتراجعت الأنشطة الفكريّة، والثقافية. وهكذا فقدت المدن وضعها كحاضنة للطبقة الوسطى التي تحولت إمّا إلى الفقر، أو التحق بعضها بالطّبقات الغنيّة، وغابت كحامل اجتماعيّ للثقافة والفكر، والتطوير، والسياسة. رافق سقوط (الطبقة الوسطى) إجهاض عمليتي التنمية الاقتصادية، والاجتماعية، وغلبة مظاهر السّلطة على مظاهر الدّولة، وتأسيسها، وانتشار الفساد، وسوء الإدارة، والتهميش، وغلبة مظاهر السّلطة على سلطة الدولة. وكان هناك الفساد، وسوء الإدارة، والتهميش في القانون والأحزاب، والحياة السّياسية، وعدم التقدم العلمي، والبعد عن التكامل الاقتصادي العربي. هكذا أفل دور الطبقة الوسطى، وأجهضت مشاريع التنمية وبالتالي مشروع بناء دولة المواطن، والمؤسسات، وهذا ينسحب على غالب الحال العربي.

هذه بعض القراءة في معادلة السّلطة، والبنية الاجتماعية العربية.. علها مقاربة للكشف عن بعض الحال الاجتماعي العربي كخلفية لما جرى، ويجري اليوم على السّاحات العربية، والحديث يحتاج إلى الكثير من المعالجة.

العدد 1105 - 01/5/2024