أيديولوجيا الوهابية… جذور تاريخية وروابط اجتماعية

جاءت تسمية(الوهابية) بهذا الاسم نسبة إلى مؤسسها محمد بن عبد الوهاب (17001791 الموافق 11151206هجرية). بدأت هذه الحركة في العُيينة حيث منشأ محمد بن عبد الوهاب. تلقى العلم في المدينة المنورة، وكان أبوه قاضياً فيها. حفظ على يديه القرآن الكريم وهو في الثامنة من عمره، وحفظ قدراً من الأحاديث. زار مكة والمدينة. ويقال إنه رحل إلى البصرة وبغداد وكردستان، حيث اطلع على علوم التصوف وفلسفة الإشراق.

يتجلى أبرز معالم أيديولوجيا الوهابية في تسمية الشيخ وتلامذته من يعارض سياسة الدولة ب(الخوارج)، كما يلصقون بكل انفصال عن حركتهم السياسية صفة (الردة). لا يخفى على أحد ما ينضوي تحت هذه الكلمة من معانٍ في الفكر الإسلامي، فمن لا يقر بكل ما يقرون به فهو مرتد خارج عن جادة الصواب، ويجب تصفيته معنوياً إن تعذرت التصفية المادية.

في ذلك يقول أمين الريحاني في كتابه (معجزة فوق الرمال) ص64: إنهم يعتقدون أن من كان خارج مذهبهم فهو ليس بمسلم، فيشيرون إلى ذلك في سلامهم على بعض (السلام عليكم يا الإخوان حيا الله المسلمين)، وإذا سلم عليهم سنّي أو شيعي لا يردون عليه السلام.

وذكر جون فيلبي مستشار بن سعود البريطاني في تقرير واف كتبه بعد إقامة طالت ثلاثة أشهر في معسكر حاكم الرياض بالأحساء إلى المقيم البريطاني بالخليج السير بيرسي كوكس:

(طبقاً للقرآن لا ينبغي أن يكون هناك قتال بين أخيار المسلمين »الوهابيين« وبين المسيحيين لأنهم من أهل الكتاب والتسامح معهم توجيه من الله، أما قتال المسلمين الأخيار وجهادهم فلا يكون إلا مع الكفار والمشركين. وأول الكفار والمشركين هم العثمانيون، وأيضاً الأشراف الهاشميون، وباختصار كل المحمدية عدا الوهابيين).. ثم يضيف فيلبي قائلاً عبارة لها رنين:

(ليس من شأننا تصحيح الخطأ في هذا الموضوع بل على العكس علينا تعميق كراهية بن سعود لكل المسلمين من غير الوهابيين، فكلما زادت هذه الكراهية للجميع كان ذلك متوافقاً مع مصالحنا).

وسنجد هذا العزل والإقصاء حين يبرر عبد العزيز آل سعود تحالفه مع بريطانيا المسيحية التي يأمرنا ديننا بالبر إليها (ضد العثمانيين والهاشميين في الحجاز) المرتدين. وفي أيامنا هذه يجري بالمثل تبرير التحالف مع إسرائيل والولايات المتحدة ضد إيران.

في بلدة العُيينة أشهر ابن عبد الوهاب خروجه على التقليد: شكك في النزعات الصوفية الشائعة منذ عهود الانحطاط، إذ شاعت الخرافة وانتشرت الشعوذة. أعاد التصوف عبادة القبور، وراج أمرها في العصر المملوكي بعد مزج التصوف بالسنة. نشر التصوف في العصر المملوكي قيمة اجتماعية هابطة هادمة هي التسليم لما يجري من أفعال وآثام، بل تقليدها. هذا التصوف السني هو الذي جعل العصر العثماني أكثر تخلفاً من سابقه المملوكي. عبادة القبور والأحجار والأولياء الصوفية تستلزم تغييب العقل وحشوه بالخرافة لكي يصدق بكرامات الأولياء، ولكي يرفع عن أنظمة الطغيان ونهب جهود البشر مسؤولية الواقع البائس للحياة الاجتماعية. وكان أبو الهدى الصيادي راعي الفرق الصوفية في الدولة العثمانية، ومستشار السلطان عبد الحميد، وهو الذي أفتى(بوجوب طاعة الخليفة حتى لو خرج على الدين، فهو ظل الله على الأرض).

قذف بحر الظلمات كل ما طفا على سطح المستنقع الاجتماعي. غير أن ابن عبد الوهاب حارب المظاهر وتمسك بجوهر تبخيس الإنسان وحاجات البشر الأساس. أنكر ما رآه سائداً في زمانه، كالتبرُّك بالقبور والأشجار والتعلق بالتمائم، باعتبارها أعمالاً تنافي التوحيد لله. ثم انتقل إلى التحذير من تلك الأعمال وتدمير الأضرحة والمشاهد المبنية على القبور. قال إن من استغاث بالنبي، صلى الله عليه وسلم، أو بغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين أو ناداه أو سأله الشفاعة فإنه مثل هؤلاء المشركين، حتى لقد جعل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين مثل ذلك. تمسك بما أدمن عليه العامة من تسليم لما يجري من أفعال وآثام، وتغييب أسباب البؤس في واقع الحياة. بينما تفرس المحيطون به، ومنهم والده وشقيقه، فيه الزيغ والضلال. تطيَّر منه الجميع وفيهم أبوه وأخوه.

سأله أخوه سليمان ذات مرة: كم أركان الإسلام يا محمد؟

فقال له محمد: خمسة أركان.

فقال أخوه: أنت جعلتها ستة أركان، والسادس منهم هو أن من لم يتبعك فليس بمسلم، هذا عندك ركن سادس للإسلام.

بدأ أمره بالظهور ابتداء من عام 1143هجرية، وانتشرت دعوته عام 1150.  لم يسلم أيضاً من عنفه أحد حتى رسول أخيه، فقد قتله عندما جاء برسالة من أخيه للرد على ادعاءاته بأدلة من القرآن والسنة، فغضب وقتله. وقَتْلُ الرسل محرم في الإسلام.

الجهالة ضد تنوير ابن رشد

عَبَرَ فقه ابن تيمية إلى العصر الحديث، وتلقفه محمد ابن عبد الوهاب، وتفشت الوهابية في الفقه السلفي الحديث بواسطة المال النفطي. هذا بينما نُبذت فلسفة ابن رشد من قبل الجهالة الظلامية، فتبناها العلم الناهض ينور الحياة في أوربا. أتيح للرشدية أن تنهض من جديد بمضمونها العقلاني النقدي إبان عصر النهضة في أوربا. أخذ بها جوردانو برونو الذي أحرقته الكنيسة. كما نقل عنه العالم الإيطالي برناردو تيليزيو، متبنياً النظرية الرشدية حول دور الحرارة في انتقال المادة الجامدة إلى الحياة. (مروة  النزعات المادية في الإسلام، ص 712. ). هكذا قيل عن ابن رشد(نبذه الأهل واحتضنه الأوربيون). والأصح نبذته الجهالة والظلامية واحتضنه التنوير.

منذ خلافة المتوكل،  الخليفة العباسي، حين انتشر الفكر الأشعري، الذي سار عليه الإمام أبو حامد الغزالي، ثم الإمام ابن تيمية، تفاقمت عوامل الضعف في القوى المنتجة الريفية.  طفت على سطح الحياة الاجتماعية مظاهر الخلل والاهتزاز في البنية العامة للنظام الاجتماعي كلما اشتد الصراع بوجهه الطبقي والفئوي بين الفئات العليا، التي ازدادت تشرذماً في دويلات، وتناحرت بشكل دموي في أغلب الأحوال (مروة 269).

اتكأ ابن عبد الوهاب على فكرتين أساسيتين تنتميان إلى العصر الوسيط: الحكم المطلق والعنف السياسي. الوهابية ظهرت امتداداً أكثر تشدداً للمذهب الحنبلي الذي ظهر في القرن التاسع الميلادي، لم تلتزم بالأمر الرباني (وجادِلْهم بالتي هي أحسن)، و(لا إكراه في الدين)، إنما فرضت اللاتسامح القروسطي مشفوعاً بالعنف إزاء المخالفين، (الدم الدم، والهدم الهدم).

يختزل العرض التاريخي لتطور الفقه الإسلامي بالمحطات التالية:

* محطة انفتاح الفقه، بما هو استخلاص الأحكام من مبادئ الدين، في حقبة الحراك الاجتماعي، عندما استنار بمعطيات العقل ومنجزات البحث التجريبي، واتسم بالتسامح مع الرأي المخالف وهو يبحث في ما يصلح للناس.

* وفي أطوار أخرى استعصم بضيق الأفق وأطبقت عليه الظلامية والجهالة هرباً من عقلانية المعتزلة، إذ تراجع أمام سطوة التسلط الغشوم أو أجدبت لديه القرائح، فاستعان بالنقل وقطع دابر المناظرة والحوار وتحكيم العقل. فظهر أبو الحسن الأشعري من أتباع ابن حنبل. بات الرجوع إلى السلف، ماضياً وحاضراً، ردة عن العقلانية وإيغالاً في الظلامية.

* اقتحم التكفير ميدان الفكر، تستراً على العجز في ميدان المنافسة، ورديفاً للهذر الاجتماعي.

* في عصور الانحطاط تحول الفقه إلى أداة أيديولوجية تسند الظلم والجور والفسوق. وغدا فقهاء الظلام شريحة من بطانة الحكام تُكفِّر العقل والحوار والمناظرة كي تملك حرية الإفتاء بما يضفي مسحة التقوى على السلاطين.

استتبعت أدلجة الدين في سياقات تاريخية مختلفة رعاية نمط الحكم السلطوي في العصر الوسيط، وأقرت تبخيس البشر واستلابهم.

دخل ابن تيمية، أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم الحراني (661- 728 هجرية / 1162-1227م) ميدان الفقه الإسلامي بحلول القرن السابع الهجري، وقد تكرست مفاهيم المُلك العضوض الطاغوتية لطاعة المنحرفين والمستبدين والجهلاء من السلاطين. بلغ الأمر بعدد من(الفقهاء) أن أفتَوْا بأنه (إذا ما خلا الوقت من إمام عادل مستحق للإمامة فتصدى لها من هو ليس من أهلها، وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف، انعقدت بيعته ولزمت طاعته لينتظم شمل المسلمين وتجمع كلمتهم. ولا يقدح في ذلك كونه جاهلاً أو فاسقاً في الأصح). كانت الفتوى استجابة لضرورة ودلالة على تلك الظاهرة، حيث العصر عصر تشظيات الدولة الإسلامية، وبروز ظاهرة البلطجية، قطاع الطرق، ممن شكلوا تحت إمرتهم جيوشاً اغتصبوا بواسطتها الحكم. . في ذلك العصر صاغ الفقه مقولة (من يحكم يطاع).

لم يجد ابن تيمية غضاضة في تبرير اغتصاب معاوية للخلافة. ومضى الشطط إلى مداه فبات (صاحب العلم) ديكوراً يزين به الحاكم ديوانه، محاولاً توظيف سمعته وصيته العلمي، مباعداً بين العلماء والجمهور. بات الفقيه ملحقًا بديوان السلطان وفقد الفقه تأثيره على الجمهور. لم يعد الفقيه يخاطب الجمهور، وبات التدين الشعبي نهباً لخرافات المشعوذين والصوفيين الدراويش ممن ادعوا لأنفسهم الكرامات، والسطوة لصاحب السلطان، وتابعه. وما درى ابن تيمية أنه سيذوق من الكأس التي سقاها الأشاعرة لخصومهم.

في زمن الفتن والصراعات نشأ ابن تيمية، الفقيه الذي ترك بصماته على الفقه المعاصر. كان صاحب ثقافة واسعة غزيرة،  تأثر بالحسن البصري واعترف بتأثره بجانب من الفلسفة الرشدية، وأخذ ببعضها محاولاً دمج النقل مع العقل، لكن مع تقديم النقل.  ثقافته الواسعة ساهمت في تماسك منظومة العقل السلفي، وشيَّدت بنيته المنهجية. لكنه لم يخرج من عباءة الحنبلية. أدان المعارف الإنسانية من كلام ومنطق وفلسفة،  ثم استعملها.  ولعل من السهولة ملاحظة في كلام ابن تيمية كيف يخلط الممكن بالواجب، إذ يقول في مكان:(فبيّن رسول الله، أن الإمام الذي يطاع هو من كان له سلطان، سواء كان عادلاً أو ظالماً)،  وفي موضع آخر يفتي بأن: (الإمام هو من يقتدى به،  وصاحب يد وسيف يطاع طوعاً وكرهاً.. ). (منهاج السنة). فالممكن السياسي يحتكر وسائل الإكراه ويحول الطاعة واجباً ملزماً، إذ الفتنة تكمن في البديل، أعني التمسك بقيم العدل والمساواة والحريات كواجب.  وهكذا تمكنت وتأبدت القاعدة الفقهية (درء المفاسد مُقدَّم على جلب المنافع).  امتنع الفقه عن تنوير المسلمين بأمور الدين.

وقع ابن تيمية ضحية الخصوم فأذاقوه الكأس المر،  كأس التفسير الكيفي لمضامين النصوص المقدسة.  هكذا مضى الصراع بين الفرق، وهكذا حسمت الخلافات.  انتهت الصوفية إلى (الحضيض الجرمي) الذي قال به صاحبهم السهروردي المقتول.

البيئة الاجتماعية للوهابية

يكمن منبع التعارض ثم الصراع بين دعاة التحديث ودعاة السلفية في الثقافة العربية  الإسلامية في الخضوع لنهج النظام الكولونيالي، الذي أبقى على التخلف في فهم الدين، شأن كل تجليات الحياة الاجتماعية، معززاً بذلك تخلف البنى الاجتماعية الأخرى، ومحتضناً السلفيين دعاة تسييس الدين.

يقول الدكتور سمير أمين: إن الفكر الإسلامي السلفي من ابتكار الفكر الاستشراقي، قُدّم هدية لحكام الهند كي يمزقوا الحركة الوطنية المناهضة لحكمهم. أخذ بالسلفية أبو الأعلى المودودي ووظفها لفصل باكستان عن الهند. وارتضت قوى الغزو الكولونيالي الحفاظ على القيم الموروثة، إذ وجدت فيها ضالتها في الإبقاء على الوعي المخدر والاستكانة لواقع البؤس والاستلاب. تجاهلت السلفية المعاصرة الطابع الاجتماعي التاريخي للتراث، كونه منتجاً في زمن تاريخي، ومنحته قيمة مطلقة. في ذلك يقول الدكتور حسين مروة في مقدمة مؤلفه (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) (الجزء الأول، الطبعة السادسة 1985 ص23): (إن السلفية، حتى بإصرارها على الالتزام برؤية الحاضر من خلال الماضي، إنما هم  في الواقع وجوهر الأمر  ينطلقون من إصرار معاكس له، إنهم ينطلقون حقيقة من الموقع الذي يحتلونه في هرم البنية الاجتماعية الحاضرة، طبقة معينة يعبرون عن إيديولوجيتها، إما لأنهم في موقعها الطبقي نفسه، أو لسبب آخر يتعلق بتكونهم الفكري وغياب الوعي السياسي والطبقي عنهم. نقصد بذلك أن المضمون الحقيقي لرؤيتهم السلفية إلى التراث هو مضمون ترتبط جذوره بالحاضر وتنغرس في تربة الحاضر. هو صيغة من صيغ الأيديولوجيات المتحاربة المعاصرة، هو استنجاد بالأفكار التي تجاوزها الزمن لتثبيت موقع طبقي متزعزع في بنية اجتماعية تتصدع تحت مطرقة الحاضر).

يزخر التاريخ الإسلامي بالخلافات الفقهية، لكنه، وقد شهد تغير الدول وتبدل الحكام طوال أربعة عشر قرناً، لم يشهد تنظيماً سياسياً محدد المعالم يمكن وصفه بالدستور الإسلامي، أو(المعلوم من الدين)، كما يدعي السلفيون. ولعل معاوية كان أفضل من عبّر عن الفراغ الدستوري عندما قال وهو يسعى لأخذ البيعة لابنه يزيد، كما كتب ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة): (أيها الناس قد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبض(توفي) ولم يستخلف أحداً، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر، وكانت بيعته بيعة هدى، فعمل بكتاب الله وسنة رسوله، فلما حضرته الوفاة رأى أن يستخلف عمر، فعمل عمر بكتاب الله وسنة رسوله، فلما حضرته الوفاة رأى أن يجعلها شورى بين ستة نفر اختارهم من المسلمين. فصنع أبو بكر ما لم يصنعه رسول الله وصنع عمر ما لم يصنعه أبو بكر، كل ذلك يصنعونه نظراً للمسلمين. فلذلك رأيت أن أبايع ليزيد لما وقع الناس فيه من الاختلاف ونظراً لهم بعين الإنصاف).

في ظل الظلم المخيم على المجتمع في عصر المماليك فتح سرداب في جوف الظلام يفضي إلى فرج موهوم في طقوس الدروشة والتعلق بالأولياء والمزارات. كان خطوة إلى الوراء عن الصوفية، مجردة من المضمون الثوري ضد السلطة وإيديولوجيتها، فانحطت إلى جبرية مغرقة في العدمية، تزعم أن البلوى المحيقة بالعامة ليست أرضية السبب، إنما هي قدر من السماء.

 

كاتب وباحث فلسطيني مقيم في رام الله

العدد 1107 - 22/5/2024