مسألة وعي الوقت وملء أوقات الفراغ

يشكل الشباب عنصر التجدد والعطاء في ضمير الأمم،  وبيدهم وعقولهم تتقدم الأوطان،  وينفتح المستقبل المشرق أمام الناس. وتكمن أهميتهم ودورهم في مجتمعنا العربي من أنهم يملكون قوة وحركة وديناميكية تجعلهم يسهمون في تنمية المجتمع ودفعه إلى الأمام بعزيمة وطموح. إلى جانب أنهم يمثلون أكثر من نصف عدد السكان في الوطن العربي، ويشكلون خمس القوة البشرية العاملة، أو التي يعتمد عليها، في أداء أعمال إنتاجية معينة.  وهم العصب الرئيس للمجتمع والاقتصاد. وخاصة العقول المبدعة منهم الذين يشكلون ثروة وطنية وحضارية كبيرة إن أحسنّا الاستفادة منهم.

ولا نجانب الحقيقة إذا قلنا إن من أوّليات اهتمام شبابنا تأمين فرص العمل والعيش الكريم وتوفير المناخ المناسب لممارسة هواياتهم وتنمية الجوانب الإبداعية لديهم، وذلك بتعليمهم وعي الوقت،  وكيفية الاستفادة منه.

وعلى سبيل المثال يتبين لكل صاحب بصيرة الواقع غير المرضي لشبابنا في سورية، إذ إن نسبة الراغب في الهجرة منهم ممن تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً 3,34%، وترتفع هذه النسبة بين الأعمار 19و24 عاماً لتصل إلى 2,43%.

إن هذه الأرقام تقرع ناقوس الخطر،  وهي مدعاة لتحرك سريع، حرصاً على مصلحة الوطن وعدم حرمانه من هذه الثروة الكبيرة، وذلك باتباع سياسات حكومية جديدة في مجالات الحياة المختلفة لتوفير العمل لشبابنا، والاحتفاظ بهم في أوطانهم، للمساهمة في بنائه وتطويره. ومع تأكيدنا مشاكل الشباب المتعددة وأهميتها، إلا إننا سنفرد هذه المقالة للحديث عن الشباب ومشكلة تعامله مع الوقت والزمن وكيفية استثمار الوقت، هذه الثروة المهدورة.

 

مفهوم الوقت

قبل عشرة قرون من الزمان سبقت قيام البرت آينشتاين بنشر نظريته النسبية الخاصة عام 1905م. ابتكرت فكرة التواقت: simultaneity المنشورة (والمأخوذة نصاً ومعنىً؟!) في بنيان نظرية آينشتاين النسبية هذه، في الرسالة القشيرية لأبي القاسم القشيري، إذ قال: (حقيقة الوقت عند أهل التحقيق: حادث متوهم علق حصوله على حادث متحقق. فالحادث المتحقق،  وقت للحادث المتوهم،  تقول: آتيك رأس الشهر،  فالإتيان متوهم،  ورأس الشهر حادث متحقق،  فرأس الشهر وقت الإتيان. (1) واستكمالاً لتذكيرنا بمدلول (التواقت) العربي – الإسلامي يقول القشيري: (الوقت: ما أنت فيه،  إن كنت بالدنيا فوقتك الدنيا،  وإن كنت بالعقبى،  فوقتك العقبى،  وإن كنت بالسرور فوقتك السرور،  وإن كنت بالحزن فوقتك الحزن…) (2) وبذلك يقودنا هذا الأمر،  إلى الاتفاق مع النظرية العربية النسبية في: (أن الوقت ما كان هو الغالب على الإنسان). (3)

وفي الواقع نحن في العالم العربي-الإسلامي نعرف شيئاً يسمى (الوقت)، ولكنه الوقت الذي ينتهي إلى (عدم)،  ولا ندرك معناه، ولا تجزئته الفنية، لأننا لا ندرك قيمة أجزائه من ساعة ودقيقة وثانية، ولسنا نعرف إلى الآن فكرة (الزمن) الذي يتصل اتصالاً وثيقاً بالتاريخ.

وكما هو معروف: بتحديد فكرة الزمن يتحدد معنى التأثير والإنتاج،  وهو معنى – الحياة الحاضرة- الذي ينقصنا، هذا المعنى الذي لم نكسبه بعد، هو مفهوم الزمن الداخل في تكوين الفكرة والنشاط في تكوين المعاني والأشياء. ويجمع معظم الباحثين أن الوقت هو العنصر الثالث في تكوين الحضارة، إذ الحضارة=إنسان + تراب+الوقت. ويؤكد كثير من الباحثين: (أن الزمن نهر قديم يعبر العالم،ويروي في أربع وعشرين ساعة الرقعة التي يعيش فيها كل شعب،  والحقل الذي يعمل به،وهذه الساعات التي تصبح تاريخاً هنا وهناك، قد تصير عدماً إذا مرت فوق رؤوس لا تسمع خريرها.

وإذا قسنا الزمن بمقياس الساعات التائهة فالقرون لا تساوي شيئاً،  حتى إننا ننساق أحياناً، وننسى الحضارات.وحينما لا يكون الوقت من أجل الإثراء أو تحصيل النعم الغائبة،  أي حينما يكون ضرورياً للمحافظة على البقاء، أو لتحقيق الخلود والانتصار على الأخطار،يسمع الناس فجأة صوت الساعات الهاربة، ويدركون قيمتها التي لا تعوَّض، ففي هذه الساعات لا تهم الناس الثروة أو السعادة أو الألم، وإنما الساعات نفسها، فيتحدثون حينئذ عن ساعات العمل، فهي العملة الوحيدة التي لا تبطل، ولا تسترد إذا ضاعت) (4). وبالتالي فإن وقتنا الزاحف صوب التاريخ لا يجب أن يضيع هباءً، كما يهرب الماء من ساقية خربة.

 

استثمار الوقت

 منذ أن وجد الإنسان على الأرض، وهو في صراع وتحد وعمل دائم في تفاعله مع بيئته الخارجية (المادية والطبيعية والاجتماعية)،  والداخلية (السلوكية والنفسية). ومع التطور الهائل في المجالات المختلفة، كان لابد من الاهتمام بأنشطة وقت الفراغ،  وتوظيفها،  بما يحقق نمو الشخصية،  ومزيداً من التكيف،  والصحة النفسية والجسمية.

وقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م أن (لكل شخص الحق في الراحة وأوقات الفراغ). وأصبح التلازم بين وقت العمل ووقت الفراغ سمة أساسية من سمات التجمعات المتقدمة.

وتعد قضية شغل وقت الفراغ من المشكلات التي يواجهها الشباب، ومن البديهي القول:إن وقت الفراغ له أبعاد سلبية متعددة، ويعد هدراً في الجوانب الاقتصادية. فالدول المتقدمة تسعى بكل ما تملك إلى شغل وقت الفراغ للشباب، بإيجاد فرص العمل في العطلة المدرسية، وإعداد البرامج الفنية والتقنية، والأنشطة المختلفة والإعلان عنها في وسائل الإعلام،  ثم تقديم المكافآت المادية، تشجيعاً لهم (5). ويقتضي الأمر التنوع في مجال الأنشطة،  فبعض الناس يفضلون قضاء وقت فراغهم في الرياضة البدنية، والبعض الآخر في الموسيقا أو المسرح أو السينما أو ممارسة المطالعة وغير ذلك.

وقد برزت فكرة الإعداد لقضاء وقت الفراغ بطريقة إيجابية تقوم على طريقتين أساسيتين:

الأولى: هي تثقيف الناس ليعرفوا كيف يستخدمون وقت فراغهم بحكمة.

والثانية هي تطوير برامج الترويج المتنوعة التي تقابل احتياجات سلوك الفراغ. وتُعدّ المدارس والمعاهد التعليمية من بين الأجهزة الأساسية التي تتولى الإعداد لقضاء وقت الفراغ،  ولا شك أن التربية هي الوسيلة الضرورية التي تعلم الشباب العربي تماماً قيمة هذا الأمر.

 

أهمية الفراغ وأنشطته في حياة الإنسان

 إن العملة الذهبية يمكن أن تضيع، وأن يجدها المرءُ بعد ضياعها، ولكن لا تستطيع أية قوة في العالم أن تستعيد دقيقة إذا مضت (6).وبالتالي إن تحقيق التوازن بين وقت العمل ووقت الفراغ أمر أساسي للإنسان، فالترفيه الثقافي، والروحي، والجسدي،  ضرورة حيوية تمهد لحركة العمل والإبداع. وهذا ما أكده سقراط بقوله: (إن وقت الفراغ لهو أثمن ما تملك)،  وقال آخر: قل لي ماذا تفعل في وقت الفراغ؟ وأنا أخبرك بشخصيتك. ويرى جونز أن استثمار الفراغ يخدم الوظائف التالية:

زيادة الإنتاج،  زيادة الاستهلاك، ويقلل من الجريمة والانحراف،  لأنه كما يقول المثل الإنكليزي: الشيطان يجد عملاً للأيدي العاطلة لكي تعمل. أما ماكدويل فإنه يقدم تلخيصاً لبعض الآراء التي ذكرها الباحثون في ميدان الفراغ حول أهمية أنشطة الفراغ:بأنها تعطي الفرد شعوراً عالياً بالتحرك نحو حرية مرغوبة وقيمة وشعوراً عالياً بالتعبير الذاتي، وضبط الذات والنمو الذاتي، والراحة والاسترخاء.

 ويصف الشاعر العربي أبو العتاهية الفراغ الذي يصاحب الشباب بأنه مفسدة كبرى،  ولا تضاهيها مفسدة، وهو بهذا القول يحذر من خطر الفراغ في حياة الشباب فيقول:

إنَّ الشبابَ والفراغَ والجِده

 مفسدةٌ للمرءِ أيَّ مفسدهْ

إن خبرة وقت الفراغ هي مصدر هام من مصادر الرضا الذاتي،  والإحساس بالسعادة، إذ تساعد على تنمية الأساليب والمهارات التي يمكن الاستفادة منها في استعادة التوافق والتأهيل. ويرى الكثير من الباحثين في هذا المجال أن هناك علاقة بين الاشتراك في أنشطة وقت الفراغ وبين نمو الشخصية.

 

نحو استثمار أفضل لأوقات الفراغ

انطلاقاً من حقيقة أن النهضة لا تقوم إلا بأيدي الأتقياء والأنقياء، وأن الفكر الصحيح هو الذي ينتج النهضة والحضارة (7)، وعلى اعتبار إن لا سبيل لبلوغ الحضارة والمحافظة عليها إلا بسواعد شبابها وعقولهم،  فإنه من الضروري تنشئة الشباب تنشئة سليمة ومركزة،  وتكوينه تكويناً علمياً تربوياً نفسياً يتماشى مع ما تتطلبه التطورات الفنية التكنولوجية الحديثة، تكويناً يمكّنه من مواجهة تحديات العصر. وذلك من خلال استثمار الوقت للشباب من أجل: تعزيز الانتماء القومي والوطني، وقيم المواطنة، وتعزيز القيم العربية الأصيلة، وفي مقدمتها الصدق،  والوفاء، والتضحية، والإيثار،  والتمسك بالسيادة الوطنية، وعدم التفريط بتراب الوطن، وتعلُّمه تراث أجداده في مقارعة المحتلين والمعتدين. هكذا نريد من ملء فراغ شبابنا،  ولا نريده في برامج اللهو،  والخلاعة،  ومسخ شخصيته،  من خلال البرامج التي تجري اليوم سواء على صعيد الأغنية الرخيصة، أو المسلسلات الهابطة،  أو تركهم للقوى التكفيرية الظلامية التي تعيث في عقولهم فساداً وتدميراً، إلى جانب تجار المخدرات وغير ذلك.ونرى أن هذا يتطلب:

1-قيام القائمين على إدارة البلدان، وخاصة في مجال التربية والثقافة والتعليم والإعلام، بالاهتمام بهذه الثروة المهدورة والضائعة في بلدان العالم النامي، ومنها وطننا العربي.  كي لا يقوم الشباب بالبحث عن مجالات أخرى لملء أوقاتهم،  فينجرفون في الجريمة والانحطاط الأخلاقي، ما يؤدي إلى حدوث الاهتزاز في المجتمع،  والجريمة والاضطرابات وتهديد السلم الأهلي. ومن هنا فقضية ملء أوقات الفراغ في المجتمع للشباب قضية وطنية وإنسانية وأخلاقية وأمنية.ولا بد من تأكيد أهمية الدور الذي تلعبه مؤسسات المجتمع الأهلي والنقابات والاتحادات في تنظيم أوقات الفراغ للشباب على نحو مفيد وحضاري.

 2- تضافر جهود الأسرة والمدرسة والمؤسسات التعليمية مع جهود المؤسسات الإعلامية والجامعات وجهود الباحثين والمنظمات الشعبية والنقابات المهنية وجمعيات المجتمع الأهلي من أجل مناقشة مشكلات الشباب، وفي مقدمتهم التخلص من مشكلة أوقات الفراغ كي لا يتحول هذا المرض إلى مرض مزمن ومميت يفتك بالشباب والمجتمع (8).

3-إقامة المنشآت الثقافية والعلمية والترويحية الخاصة بالشباب وذلك تحت شعار: استثمار أفضل لأوقات الشباب وتعزيز الفعاليات الإيجابية عبر منشآت ثقافية خاصة.

4-إقامة المؤتمرات التي يمكن أن تُخْرج المرأة من دائرة السلبية والمشاركة الفعالة في الأنشطة الاجتماعية والثقافية المتاحة، وتوجيه عناية خاصة لأبناء الأرياف وذلك لما يعانيه الريف من نقص في وسائل الترفيه للشباب.

5 -توفر قدوة وطنية قيادية حازمة في تطبيق القانون على الجميع، ريثما يعتاد الأفراد على هذا السلوك في حياتهم اليومية فتصبح ساعات العمل حقيقية. وهذا يقودنا إلى القول: إنه من خلال إنسان يستطيع استغلال الوقت على أكمل وجه نستطيع أن نقول إننا بدأنا نهضة علمية حقيقية،  السبيل الأمثل للتطور والازدهار. إن الواقع الذي نعيشه ونلحظه بات يضغط على عقولنا لإثارة التساؤل الذي لا بد من طرحه في ختام هذه المقالة هو: ألم يحن للشعب العربي والشباب خاصة أن يَغلِب وقته كي لا يسقط مع الساقطين المستلبين، فيجنب ذاته الانكسار وهو يتمسك بنعمة حضارته وقيمه التي باتت مهددة بالدمار والتشويه؟

 

 

الهوامش:

1- أنظر التفصيل في (الرسالة القشيرية)،  الإمام أبي القاسم عبد الكريم القشيري،  القرن الرابع الهجري،  تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود ومحمود بن الشريف،  مطبعة حسان،  القاهرة،  1974.

2- المرجع السابق نفسه.

3- الدكتور عدنان مصطفى: في مقالة له نشرها على موقع wwwSyrian-oil co.

4- نجاة بلحمام، مجلة المعرفة،  وزارة الثقافة،  دمشق العدد ،591 كانون الأول عام 2012م ص123/124.

5- محمد المحامحي وعايدة مصطفى 2001م، الترويج بين النظرية والتطبيق، القاهرة، مركز الكتاب للنشر.

6-نجاة بلحمام، مجلة المعرفة، وزارة الثقافة،  دمشق العدد ،591 كانون الأول عام 2012م ص123/124.

7- د. محمد قاسم عبدالله، مجلة المعرفة العدد ،591 كانون الأول 2012م.

8-علي وطفة 1992م، توظيف وقت الفراغ عند الشباب في سورية، دراسة مقارنة بين طلاب المرحلة الثانوية والجامعات.

 

العدد 1107 - 22/5/2024