التنمية والعقائـد (2مـن2)

… لليابان والصين والهند دورها في النهضة، فأين دور الدين في نهضتها أياً كان هذا الدين؟ وإذا كان هذا المنطق أو الأمثلة تستخدم كمبرر للذهاب إلى أن البلاد الإسلامية ومنها العربية، لا محيص لها من اللجوء إلى الدين كي تنهض من جديد، فهل نسى أصحابه أن هذا يعود بالحجة عليهم؟ فباعتبار أن الدين الإسلامي لم تتراخ قوته في عالم المسلمين خلال القرون الثمانية الماضية التي شكلت عصور الانحطاط الحضاري، فلماذا بقي المسلمون بالرغم من ذلك هم الأضعف بين الشعوب في ميدان التطور؟ لماذا لم يسعفهم الإسلام كما أسعفت الديانات الأخرى الشعوب التي تدين بها في الخروج من المأزق الحضاري الذي لا يقل عن مأزقها، وباعتبار قوة حضور الدين ضامن التطور، ولم تتعرض قوته للاهتزاز في بلادنا؟!

الأمر يفترض رداً مقنعاً، فإما أن يقولوا إن الدين لا علاقة له بنهضة الشعوب، أو إنه يمكن أن يساعد في ذلك، أو يكون أساساً فعالاً، وفي هذه الحالة لماذا لم يحصل الأمر وللدين كل هذا الحضور الفاعل اجتماعياً، خلال قرون التخلف الماضية، خاصة بعد بداية النهضة العربية؟ ولا ننسى أن الدين متهم بأنه سبب التخلف من قبل كثيرين، فكيف يكون عامل النهوض؟!

إذا قيل لا شأن للدين في ذلك (وهذا مستبعد أن يقال)، فلا يصح الدفع بعد ذلك بحجة أن التراخي الديني وضعف الحافز الديني والالتزام به هو سبب من أسباب التراجع الحضاري، ولن يعود الدور الحضاري بقوة إلا مع عودة الإيمان القوي إلى قلوب الناس وعقولهم، وبالتالي تمكين النصوص ومن يعمل في إدارتها.

وإذا قيل إن الدين هو الأهم والأساس، ولا نهوض للأمة من دون طريق التدين الملتزم بدقة، حتى دون أن يتم التفكير بما هو إلهي ونصّي منه، أو ما راكمه الفقهاء ورجال الدين والمؤمنون مما ينسجم مع القيم أو لا ينسجم. بالتالي يكون من الضروري تفسير انفراد بلدان، دين أهلها الإسلام، اندفعت في مسار الحضارة بقوة عندما تراخى دور الدين فيها عن التأثير الفاعل في حياة الناس، مثل تركيا. وفي حال قال قائل إن تركيا محكومة من قبل المسلمين المتشددين الآن، يمكن الرد عليهم، إن هؤلاء يستثمرون تسعة عقود من استبعاد الإسلام إلى حد كبير من الساحة التركية لصالح العلمانية، وإن التقدم حصل في الحلقة الإسلامية الأضعف من حيث الحضور الديني.

ومن الضروري الإجابة عن الأسئلة المشابهة التي تخص اندونيسيا ومسيرتها النهضوية، وماليزيا التي تتمتع بأغلبية إسلامية في مواجهة ديانات أخرى، ما يجعل الإسلام غالباً وحاكماً، وقد نهضت البلاد نهضة فاعلة بالرغم من ضعف الدور الديني في كلا البلدين، وليس هو الفاعل في النهوض، بل إن البلدين ألزما الدين حيزه الأخلاقي وإدارة العبادات وشؤون التقوى، دون إدارة السياسة أو الاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية. فهل لدى الفكر الإسلامي وممثليه تعليلات لذلك، أي لنمو الحضارة والتقدم في بلدان إسلامية أقل تشدداً في إسلامها، بمعنى أن البلاد تدار بمنطق مصالح الشعب، أو العلمانية، انسجم ذلك مع الإسلام أم لم ينسجم؟!

وعلينا ألا ننسى التجربة الإيرانية الآن، فمع أن إيران موصوفة بالتشدد الديني، لكن الفصل بين الدين ومسار العلوم والتكنولوجيا وإبعاد تأثيره عليهما، يشير إلى نهضة علمية تكنولوجية إيرانية هامة.

سيكون الموقف محرجاً وصعباً حين نقول إن البلدان الإسلامية الأكثر تخلفاً هي البلدان الأكثر تشدداً أو إحالة إلى الدين، لكن فيه بعض الحقيقة الفاقعة. فبلاد كالمملكة العربية السعودية، لا ينقصها المال، وكثير من أموالها تذهب لأعمال خرقاء، وبعضها يضيع في خضم الأزمات المالية المتوالية في الغرب، أو ثمناً لأسلحة وتكنولوجيا عسكرية من شأنها إنقاذ الصناعات الغربية ورفداً للإمبريالية.

ومع وفرة المال ووفرة الإيمان وتأثير النصوص، وكون البلاد موئل أفئدة المسلمين، مع ذلك فحالها الحضاري غير مرضية، بل هي بلاد متخلفة إذا نزعنا القشرة الغربية المشتراة بالمال النفطي، وكأن لسان حال أهلها يهلل لأن الله سخر لهم – ولنا- الغرب ليمدنا بما ننعم به.

إبراز السعودية كمثال لأنها تتمتع بوضوح الدلالة على ما نشير إليه من الحضور الواسع والقوي للدين، كما للمال، ومع ذلك فالعجز عن الانطلاق بمشروع حضاري تحديثي ذاتي يبدو مستعصياً، فلا حل جلبه الدين، ولا ندية للغرب وحضارته به أو بغيره، ولا ما يبشر في هذا المجال. وهنا لابد من النظر إلى البلدان الإسلامية التي تشير أوضاعها إلى واقع مختلف مع الأخذ بالحسبان ضعف الإمكانات المادية مهما كان حضور الدين قوياً أو ضعيفاً. بل لابد من الإشارة إلى أن بعض ما تحقق من تقدم في بعض مجالات الحياة في بلدان عربية وإسلامية أخرى، لم يكن مع حضور قوي للدين مثلما هو في غيرها.

مساءلة هذا الواقع ضرورية بمقدار ما هو ضروري أن تتم حسب ضوابطها، ومن هذه الضوابط أن تكون بعيدة عن الدين باعتباره عقيدة، لتكون مساءلة لتجربة تاريخية بحضوره القوي. فنحن عندما نذكر ما جرى في أوربا لا نحاكم اللاهوتية المسيحية، ولا عقيدة المسيحي وإيمانه بالتثليث أو بطبيعة المسيح على أسس كريستولوجية، وإنما نحاكم التجربة التاريخية التي قادتها الكنيسة ورجالها، وما راكمته من تجارب وانقسامات ووجهات نظر، وهذه صناعة البشر في حراكهم الإيماني، وما آل إليه وضع مجتمعاتهم. كذلك العقائد الأخرى وما آلت إليه تجربة شعوبها التاريخية وحراك مؤمنيها وقناعاتهم ومدى تأثير هذه العقائد في ذلك. ففي الإسلام لا نركز الاهتمام هنا على أركان الإيمان، ولا ضرورة الالتزام بالعبادات، فهذه مسائل بين الإنسان وربه، إنما لا نستطيع التهرب من السؤال التاريخي الكبير: لماذا تقدمت الشعوب وتأخر المسلمون؟ وهل للدين دور في كلا الحالين؟

قد نكون مؤمنين صالحين بمقاييس الالتزام بعناصر الإيمان وأداء العبادات، ولا تشوب علاقتنا بإلهنا شائبة من حيث أداء الفروض والواجبات، وغير مقصرين في التزامنا الديني، مع أننا قد نكون متخلفين اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، أو قد نكون متقدمين، فالمسألة هنا تقع على ما يجعلنا هكذا أو هكذا، لماذا وكيف؟

قدمت تعريفاً للتنمية في كتابي (العقل الإيماني – مصداقية الوعد بالخلاص) يقول: (التنمية تجاوز الواقع تجاوزاً إيجابياً) واستأنست بتعريف محمد عابد الجابري لها: (التنمية هي العلم حين يصبح ثقافة). وما من شك أن الجابري يقصد العلوم الكونية التطبيقية وما يساعد عليها، وما يدور في فلكها وفلك المجتمعات التي أولتها الاهتمام الكافي، وهذه عندما تصبح ثقافة المجتمع بكليته، لا لأفراد قلة فيه، تصنع تنمية، أي يتجاوز المجتمع واقعه المتخلف إلى واقع أكثر تقدماً، والعملية مستمرة لا تقف عند حد، فكل خطوة تقود إلى أخرى، وما إن تتحقق حتى نجد أننا إذا لم نحقق ما بعدها، سنكون متخلفين عن غيرنا، هكذا تصبح التنمية تجاوزاً للواقع بشكل إيجابي، ومن تجاوز إلى تجاوز يليه يكون استمرار التقدم، وهو يتطلب تفعيل كل ممكن ومتاح في سبيل تحقيق الأفضل.

السؤال الآن، هل كان تقدم الشعوب الأخرى لأن عقائدها الدينية قادت إلى ذلك، أم أنها تقدمت بمقدار التزامها بالعلم الحديث وجعله ثقافة مكنتها من مواجهة التخلف وتجاوزه؟

إن تراجع الإيمان ودور الكنيسة في أوربا كان لافتاً ومتدرجاً بمقدار ما يستطيع العلم الحديث أن يهيمن في الواقع ويصبح موضع اهتمام الناس هناك، أي ثقافة على رأي الجابري، وبمقدار ما أمكن تطبيق معطيات العلم الحديث وتحويلها إلى تكنولوجيا. إذاً حصل التقدم بتراجع الدين إن لم نقل بحركة مناهضة له. بمعنى آخر كلما تقدم العلم انحسر الإيمان، والعكس صحيح، دون أن يكون ذلك توجهاً عدائياً مقصوداً ضد الدين الذي بقي بمقدار ما أراد الناس الحفاظ عليه، لكن مع استبعاد هيمنته على فضاء الحياة العملية، لينحصر أثره في الجانب الأخلاقي والقناعات الداخلية للمؤمن التي لا تفرض على الآخرين أن يكونوا مؤمنين إلى أية درجة، من أية جهة كانت.

الأديان في المواقع الجديدة للنهوض والتقدم، أي في جنوب آسيا وشرقها حيث التقدم المطرد، تبدو مختلفة في مناهجها، فلا تفرض إلهاً خالقاً للكون، ولا وحياً ملزماً أو عقائد ضاغطة، بمقدار ما كونت عادات يكون الالتزام بها سبيلاً للترقي. بالتالي ليس لها سطوة وخوف من مصير أخروي، ولا نواطير إيمان يلزمون المرء بما لا يريد الالتزام به. وربما كان هذا مما يسهل النهوض.

هل يمكننا أن نبني على ذلك ونقول ليس منا من ينظر إلى الدين نظرة سلبية أو يقف منه موقفاً عدائياً؟ المهم أن تكون العلاقة بالدين وإيمان المؤمن أو عدم إيمانه، قضية خاصة بين الإنسان وخالقه الذي يحاسبه أو لا يحاسبه على تقصيره أو التزامه بعيداً عن وصاية الآخرين، وإن إزالة المعوقات والسدود التي تبنى على أسس عقدية وتعلن مناهضتها للحداثة والعلوم الكونية والتوجه لبناء حضارة على أسس حديثة كما تبني الشعوب، وإن الإيمان بضرورة أن نبني الحضارة الحديثة على مثال القديمة، أي بإحياء التراث فقط، وأن نعيد للدين ممثلاً بالرجال قوة حراكه المحركة للمجتمع، هي شأن لا يأتي بقرار. فليتجه الناس نحو المستقبل والتقدم، ولهم كامل الحرية أن يكونوا متدينين أم لا، فربّهم يحاسبهم. المهم أن يكونوا قادرين على بناء مجتمع قوي على أسس حديثة تكون له قوة مواجهة الأخطار التي يواجهها من القوى التي نجحت في ذلك، وإن لم نفعل فلن تنجينا عقائدنا من التخلف. هذا ما أكده الرئيس الجزائري الأسبق هواري بو مدين في مؤتمر قمة إسلامي في جاكرتا: إننا مهما تلونا آيات القرآن أو أقمنا الصلوات، فلن نكون قادرين على إطعام الجائعين. كما نقل ذلك جورج قرم في كتابه (تاريخ المشرق العربي) وهذا كلام بالغ الدلالة. دون أن ينطلق من عداء للدين أو إهمال له في الحيزات التي يسود فيها، أي في مواقع الروح والأخلاق لمن يشاء.

العدد 1105 - 01/5/2024