صندوق باندورا السوري

صفاء طعمة:

عند الدخول في عوالم الميثولوجيا البشرية، يدهشنا كيف يمكن لبعض الأساطير أن تعكس صداها في التراث المعرفي الإنساني تاركة فيه أثراً إدراكياً عميقاً يتجاوز التصنيف القصصي أو التاريخي، فتخرج من فئة الملحمية وترفعها إلى مصاف الحكمة والعبرة.

ويمكن للقارئ النبيه أغلب الأحيان أن يسقط المغزى الأخلاقي لهذه الأسطورة على حياته وظروفه الحياتية المحيطة ولو بعد عدة أزمنة تاريخية متباعدة، فيجدها تتجسد فيها وبالتفاصيل أيضاً.

تقول الأسطورة الإغريقية القديمة إن زيوس رئيس الآلهة، عهد إلى بروميثوس، وهو من العمالقة ذوي الحنكة والدهاء، مهمة تزويد الكائنات بما يضمن لها البقاء فقط، إلا ان الأخير كان شديد التعاطف مع البشر وساعدهم بكل ما يستطيع، وعلمهم الصيد وطلب من الآلهة الأخرى تعليمهم الزراعة، حتى إنه سرق لهم شعلة النار المقدسة متحدياً بذلك أوامر الآلهة التي لم تكن تسمح للإنسان بامتلاك النار، لأنه قد يسيء استخدامها وينشر الدمار بواسطتها.

وتتابع الأسطورة إن زيوس وضع خطة للانتقام من بروميثيوس، وقرر خلق امرأة جميلة، تدعى باندورا، وهي كانت أول امرأة على وجه الأرض ومعنى اسمها المعطاة، وقد استدعى آلهة الجمال آفروديت وطلب من زوجها هفستوس وهو إله الحرفة المبدعة بأن يصنعها له. ومنحتها الآلهة الأخرى عدة هبات:  فأثينا ألبستها، وأفروديت أعطتها الجمال، وهرمز منحها النطق والحديث، ونفخ فيها زيوس روح الحياة، وأرسلها إلى الأرض.

قرر أخو بروميثيوس أن يتزوجها وعندئذٍ أهدى زيوس آنية جميلة لباندورا بمناسبة الزواج ونهاها عن فتحها تحت أي ظرف، ووضع فيها كل صور الشرور البشرية، لكن وبدافع من الفضول انتهزت باندورا فرصة نوم زوجها وفتحت الآنية، فانطلق منها كل الشر الذي كانت تحويه وانتشر وعمّ أنحاء الكون من كراهية وحسد ومرض وكل سوء لم يعرفه البشر من قبل، ولما سارعت إلى إغلاق الآنية كانت جميع محتوياتها قد تحرّرت منها إلا شيء واحد بقي في قعرها وهو روح الأمل.

في هذا السياق فإن عبارة: فتح صندوق باندورا في وقتنا الحالي تعني أن تقوم بفعل قد يبدو لك ضئيلاً وغير ضار، لكنه ما يلبث أن يأتي بعواقب وخيمة بعيدة المدى وخارجة عن السيطرة.

وفي العهد الحديث في الحدث العالمي ترتبط قضية صندوق باندورا بالوثائق التي تلقاها الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين وهي تحوي وقائع مذهلة كشف عنها تحقيق استند إلى نحو 11 مليون وثيقة تتحدث عن قيام زعماء وسياسيين عرب وأجانب وأثرياء ذوي نفوذ بإخفاء مليارات الدولارات عبر عشرات من شركات الخدمات المالية العابرة للحدود (أوفشور Off-shores) في ملاذات ضريبية (منها الإمارات وقبرص وسنغافورة وسويسرا وجزر فيرجين البريطانية) يصعب الوصول إليها، ما يجعل مهمة التحقق من مصادر تلك الأموال ومتابعة حركتها أمراً شبه مستحيل، وذلك في إطار ادعاءات تتراوح بين الفساد وغسيل أموال والتهرب الضريبي، ونذكر بعضم على سبيل المثال: طوني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق وزوجته، والعاهل الاردني وعدد من الممثلين والمغنيين ومشاهير العالم.

 

الصندوق السوري

أما في الواقع السوري فإن المعنى مختلف تماماً، فبعد صدور كل قرار حكومي أو تصريحات رسمية يُعطى المواطن السوري جرته الخاصة ورغم أن لا أحد ينهاه عن فتحها واستكشاف ما يحيط بتلك القرارات أو التصريحات من تطبيقات وتشريعات ونتائج، نجده يفتحها  بلهفة بحثاً عن شعلة ولو ضئيلة عن الأمل المتبقي في القعر، لكنه يرى بأم العين جميع أصناف الشرور والأخطاء التي تنتشر في كل جهة وتطول الكثير من الجوانب المعيشية والحياتية في محيطه، من تفلت في ضبط الأسعار وغلاء المعيشة وانعدام الخدمات الأساسية الحيوية في أغلب المدن والريف السوري، وهي تمثّل الشرور التي لا يملك الخيار في منعها بل يحاول جاهداً الإمساك بها أو مجاراتها لعله يتابع حياته رغم وجودها، إلا أنه يقف مهدود الكتفين غير قادر على إرجاع الزمن إلى الوراء ويصارع بعجز في محاولة للتقدم إلى الأمام.

المثير للشفقة أحياناً أن جلَّ الأمل الذي ينتظره المواطن في هذا الوقت هو أن يعود إلى زمن ما قبل الأزمة في نوستالجيا حالمة تجعله لا يذكر من تلك الفترة الزمنية إلا أحلامها الوردية متناسياً جميع المشاكل التي كانت تواجهه آنذاك، والتي أدت إلى ما هو عليه الآن، وإصراره على انتظار معجزة التغيير دون قراءة في الأخطاء لتصحيحها ودون فهمٍ كافٍ وإدراك لنقاط القوة وتعزيزها، لذا نراه يُفاجأ يومياً بازدياد الشرور والأخطاء ويبقى ينوء تحت ثقل المصائب المكتظة في تلك الجرة.

العدد 1107 - 22/5/2024