الأب.. وطنٌ وحياة

ياسمين تيسير أبو ترابي:

عندما أتكلم عن أبي فأنا أتكلم عَن عَالم، عن دُنيا، وعَن وطن كبير، عن صديق وأخ وعَن حُبّ لا يموت أبداً، فهو السند والقدوة.

لي أب، في الأخلاق مدرسة نتعلم منه الدين والأدب، وهو بالطيبة والعطف

نبع، كلّما شربتَ منه ازددتَ عطشاً، هو الشموخ والعزوة.

إلى من علّمني الصمود أمام أمواج البحر، وإلى من أخَذَتهُ هموم الحياة مني، فالحياةُ علّمتني أن الحب الذي لن يُخيّبك هو حب الأب.

تحيةٌ إجلال وتقدير إلى تلك الروح التي بذلت كل ما بوسعها لإيصالنا إلى ما نحن عليه الآن.

تلك الروح التي تحمّلت الكثير من الصبر على مصائب الدهر وسوء الأوضاع ومازالت مُعطاءة.

فالحياة أثقلتك بصمتٍ مُريبٍ، فلم نرَكَ مرةً تشكو، لكنَّ ملامحك كانَت دائماً تُفسّر لي تعبك وهمومكَ، وأنا ليس بيدي حيلة لانتشالك من هذا الطفيف الذي تمحور داخلكَ.

غزاكَ الشيب ولم تستسلم، ما زلت لهذا اليوم تركض بكلِّ قواك لتؤمّن لنا حياة مُرفّهةٍ.

أبي.. لا يوجد أمان دونكَ، خاصة في ظلِّ هذه الحياة الوحشية الّتي نعيشها، ليتَ الأعذار تحلُّ عقدة الغربة التي أنتَ بها.

أول  كلمة نطقتها.. أبي، ولم أجد كلمة تمحو ما بي سواها، لم أجد دنيا تحتويني سواها.

بين كلّ تجعيدة وتجعيدة من وجه أبي قصّة نعيم عشتها أنا وأخواتي، أنت شجرتي التي لا تذبل، وظلّي الذي آوي إليه في يأسي وعجزي وضعفي.

أبي هو من تجرّع المرّ ليسقينا العسل شهداً، فدمتَ لنا سنداً نباهي به الجميع.

(يا أبي.. أكتب فيك من الشعر أبياتاً تحلو بك أجمل وأحلى قصيدة)

عساك قريباً مني، لأجلك تهون المسافة ولو هي بعيدة لا غبتَ عني، عسى ما تطوّل الغيبات ونراكَ كلّ يوم أعواماً مديدة.

فأنت في البال دائماً يا عزيز الصفات، فكلُّ خطوةٍ فيكَ صحيحة، وآراؤكَ سديدة.

(فدمت عزيزي وعزّتي، فأنت حبيبي الأول وعيني الثالثة وملجئي بعد الله، طاب بكَ العمر وطِبتَ لي عمراً يا أبي!).

ليتَ الأعذار تشفي ندوب بلادي، ليت الأعذار تشفي مكائد الدّهر، شهبٌ سوداء طالت بلادي ومن ذاكَ اليوم إلى هذا الوقت، نجد الآباء السوريين يفنون أعمارهم في الغربة سواء داخل البلاد أم خارجها، متناسين أبوّتهم المعنوية، التي اقتصرت على المفهوم المادي، وهذه الفجوة تزداد يوماً بعد يوم.

نعم!

حزينةٌ بعض الشيء، لأن ومضة نور تلاشت ولم تبهر العالم بضيائها.

العدد 1105 - 01/5/2024