ضِفّةٌ للتعب.. ضِفّةٌ للحياة

حسين خليفة:

الحياة حلوة

يقول العصفور

ويرتمي ميتاً قرب حذاء الصياد

الحياة حلوة

تقول الوردة

وترتمي ميتة في يد الولد الوسيم

الحياة حلوة

يقول ويُطلق على رأسه النار

الحياة قبيحة كريهة فاسدة

يقول الطاغية

ويقضم قطعة من البسكويت

في هذه القصيدة القصيرة والمدهشة من مجموعته الشعرية الأخيرة (الوعل في الغابة)، التي صدرت عام 1983 عن وزارة الثقافة السورية، يُلخّص الشاعر السوري الراحل رياض الصالح الحسين (1954 ـ 1982) فكرة جمال الحياة عند الناس الممتلئين بالألم والقهر، وقبحها في نظر الطغاة واللصوص الكبار وأثرياء الحروب، الشاعر الذي عاش صنوف العذاب والقهر المادي والمعنوي ورحل سريعاً عن 28 عاماً، إذ لم تعطِه الحياة فرصة لإكمال مشروعه الشعري التجديدي في حقل قصيدة النثر، فإضافة إلى معاناته من الصمم والبكم والفقر، جاءه المرض مُبكّراً ورحل تاركاً إرثاً شعرياً غنياً وجديداً أحدث هزّة عنيفة في المشهد الشعري السوري.

ربما هو قدر كثير من المبدعين الكبار، إذ لا تُتيح لهم الحياة أن يقولوا كل ما عندهم، فتخطفهم السماء إليها ربما لأن الأرض على اتساعها تضيق بإبداعهم.

أن ترى الحياة بكل آلامها وآمالها، بهزائمها وانتصاراتها، بجمالها وقبحها، بعين شاعر عاشها مثلنا نحن (البسطاء كالماء الواضحين كطلقة مسدس)، فتعيشها بكل ما فيها، أن تُعاركها وتترك بصماتك عليها، وتترك هي ندوبها على روحك وجسدك، تلك هي المتعة والجمال في رحلة العمر القصيرة.

كلما تأمّلنا سنوات عمرنا الحافلة بالتعب والتحدي والانكسارات واللحظات الحلوة والحب، الزاد الأبدي للحياة والمُرادف الأجمل لها، نتساءل: كم ستكون حياتنا مُمِلّة رتيبة وكريهة دون كل هذه المعارك والآلام والتعب؟!

كم ستكون اللحظات الحلوة وأيام الدعة والرخاء ثقيلة وبلا أي نكهة إن لم تأتِ بعد تحديات ومغامرات ومخاطر أفضت إليها، ومنحتها ذلك الطعم اللذيذ وذلك المكان الأثير في الذاكرة؟!

في روايته المعروفة (الحياة جميلة يا صاحبي) يرسم الشاعر التركي والروائي والمسرحي والمناضل ناظم حكمت (1902 _ 1963) صورة قاتمة لحياة الملاحقة والتخَفّي لبطل الرواية في سيرة قريبة جداً من سيرة حياة المؤلف الذي أمضى  12 عاماً في سجون الفاشية التركية، ثم نُفي إلى الاتحاد السوفييتي وبقي فيه حتى رحيله، لكنه بدءاً من العنوان حتى آخر سطر في الرواية يُصرُّ على جمال الحياة وإغواء العيش بأقصى ما نستطيع من طاقة على العطاء والفرح وتقديم الجميل والجديد للناس، وهو كذلك في أشعاره رغم قسوة المنفى يُصِرُّ على أن (أجمل الأيام تلك التي لم نعشها بعد).

الأمثلة كثيرة عن تجارب كتّاب ومناضلين سخّروا سنوات عمرهم في النضال من أجل بناء عالم أجمل حسب رؤيتهم أو قناعاتهم، وكانت سعادتهم الحقيقية في تقديم كل الجهد والتعب من أجل هذه الأهداف النبيلة، بل إن كثيرين قدّموا حياتهم في سبيل تحقيق ما آمنوا به من طريق لتحقيق المساواة والعدالة وبناء مجتمع جديد أقلُّ جوراً وقسوة على الفقراء.

حين تدفع أثماناً باهظة لمواقفك وأعمالك التي لا تبغي منها كسباً فردياً فإنك تُحيل الألم والتعب إلى فرح، لأنك منسجمٌ مع ذاتك، وتلك هي السعادة الحقيقية.

أمّا عندما تُمضي عمرك في المداهنة ونفاق الطُّغاة والمتجبّرين وأصحاب السلطة، وفي التقرّب منهم على حساب قناعاتك وأفكارك، فإنك في داخلك ستُعاني حرائق أين منها الجحيم الذي وعدت به الكتب السماوية العُصاة والمذنبين.

قد تُحقّق رخاءً فردياً بانحيازك إلى الظلم أو سكوتك عنه، لكن هذا الرخاء يشبه تماماً الصورة التي وضعها رياض في قصيدته: (الحياة قبيحة كريهة فاسدة_ يقول الطاغية، وهو يقضم قطعة من البسكويت)، أو ربما يرتشفُ كأساً من النبيذ هو من دماء ضحاياه.

العمر قصير، والحياة رحلة عابرة، فالأجدى والأجمل أن نعيشها كما نريد لا كما تريد هي.

العدد 1107 - 22/5/2024