أبوّة ضائعة ما بين العاطفة ولقمة العيش

إيمان أحمد ونوس:

يُحلّق الأبناء في الحياة بدعامة جناحين لا يمكن الاستغناء عن أيٍّ منهما، جناحان يحملانهم إلى فضاءات الحياة بالقدر ذاته من المحبة والتفاني والعطاء اللاّمحدود. فإن كانت الأم هي واهبة الحياة وصانعة الأجيال، فإن الأب في حياة الأبناء هو الدفء والأمان والحكمة، باعتباره الركيزة والدعامة والسند الحقيقي والقدوة لهم.

وانطلاقاً من تلك المكانة الهامّة له، ووفاءً لكدّه وتضحياته وعطاءاته اللامتناهية، فقد اختارت الهيئات العالمية يوم 21/6 من كل عام عيداً رسمياً للأب، نظراً لأنه أطول نهار في السنة، في رمزية واضحة وجليّة إلى عمل الأب خارج البيت إمّا في الحقل أو المعمل أو… الخ. وتعود جذور هذا العيد إلى عام 1909 حين قادت السيدة سونورا سمارت دودس حملة للاحتفاء بالأب والمطالبة بتخصيص يوم يكون بمثابة عيد له، وذلك تخليداً لذكرى والدها الذي تفرّغ لرعايتها هي وإخوتها الخمسة بعدما فارقت أمها الحياة وهي تلد طفلها السادس. إلاّ أنه لم يُعتمد رسمياً ودولياً حتى عام 1972.

إن تلك الحملة العابقة بالوفاء لأب سهر على رعاية أبنائه بعد وفاة الأم، كانت قد تضمّنت رسالة إنسانية، تؤكّد أهمية وجود الأب في حياة الأبناء على اختلاف مراحلهم العمرية، مثلما تؤكّد أن حضوره ورعايته لا يقلُّ أهمية عن رعاية الأم واحتضانها لأبنائها، إضافة إلى أن التضحية تجاه الأبناء لا تقتصر فقط على الأمهات في بعض الأحيان والحالات، فهناك آباء يُقدمون على تضحيات خيالية وغير متوقّعة بحكم السيرة التقليدية للرجل/الأب في مجتمع ذكوري- تقليدي. وهذا ما يُفضي إلى أن للأب ودفئه تأثيراً كبيراً وعظيماً في شخصيات الأبناء على المدى البعيد، بما يجعلهم أُناساً إيجابيين ناجحين وفاعلين في الأسرة والمجتمع والحياة برمتها.

فالأبوّة كما الأمومة عاطفة غريزية من الأب تجاه الأبناء، يتفاعل معها بشكل يُقارب عاطفة الأم، أو هكذا يُفترض أن تكون، وكما أن الأمومة تحكمها الغريزة والأعراف والتقاليد، إضافة إلى موروث ديني يُعزّز تلك الغريزة، ما يجعل المرأة/الأم بشكل شبه مُطلق وعفوي أسيرة هذه الأمومة منذ الصرخة الأولى للطفل، كذلك الأبوّة تحكمها الأعراف والتقاليد والموروث الديني، لكنها جميعها عوامل تحكم لصالح الرجل/ الأب، وتساعده في أن يكون شبه حرّ من التزاماته التربوية والاجتماعية- باستثناء المادية-  فهو بالتالي غير مُقيّد بأبوّته كما قُيّدَتْ المرأة بأمومتها.. هذا في الحياة الطبيعية وما سبقّ ممّا جرى في سورية قبل أكثر من عقدين ونيّف من الزمن، حين باتت لقمة العيش هي الهدف الأساس لعموم الآباء والأمهات خاصّة العاملات منهن في ظلّ ما خلّفه الوضع الاقتصادي المُتردي في المجتمع بسبب السياسات الاقتصادية التي فرضها نهج اقتصاد السوق الاجتماعي سيّئ الصيت حينذاك، والذي كان له الدور الأبرز في نشوب الأزمة التي عصفت بالبلاد وقادت إلى حرب استمرت سنوات دمّرت خلالها وخرّبت ما خرّبته على مستوى الفرد والمجتمع وحتى الدولة، فقد بات من الصعوبة بمكان تأمين المستلزمات الأساسية للبقاء على قيد الحياة والحضور الآدمي وليس الإنساني، ما فرض على من بقي من آباء الغياب الطويل عن البيت للعمل بأكثر من عمل ووظيفة، أو الهجرة خارج البلاد ليُغطي نفقات البيت والأولاد في ظلّ الجنون الرهيب لأسعار تلك المستلزمات وغيرها من ضروريات، وهذا ما جعله في نظر الأبناء ضيفاً ربما لا يُصادفونه في البيت إلاّ وقتاً قصيراً لا يكفي لتبادل بضع كلمات أو مشاعر إن وجِدَتْ. فما بالنا بباقي احتياجاتهم النفسية والاجتماعية الأساسية التي لا يمكن سوى للأب تقديمها؟

هنا، لا شكّ ستكون النتائج خطيرة جداً على كل أفراد الأسرة وبضمنهم الأب ذاته الذي كان غيابه مقبولاً نوعاً ما في الماضي، وفي حالة تكون فيها الأم فقط ربّة منزل، ولكن حتى في هذه الحالة، فإن لعلماء النفس والتربية رأياً مُخالفاً، إذ يقولون بضرورة حضور الأب في حياة الطفل مثل حضور الأم تماماً من حيث تكوين البنية النفسية والعاطفية ومنظومة القيم والمفاهيم التي يكتسبها الطفل من والديه حصراً. وهذا يُعطينا فكرة عن أهمية العلاقة بين الأب وأطفاله وضرورتها ليكونوا في المستقبل أبناءً صالحين وآباء إيجابيين يعرفون معنى المسؤولية ويُقدرونها تجاه أنفسهم والآخرين. فالطفل الذي لا يبقى أبوه في حاضراً في حياته إلاّ نادراً نراه طفلاً يفتقد الحنان والأمان، خجولاً، أو قد نجده مُشاكساً، مزاجياً وسريع الغضب.

أمّا بالنسبة للفتاة التي تفتقد وجود والدها، فإنها تُصبح أكثر ميلاً للتقرّب من رجال كبار في السنّ، مُبتعدة عن أقرانها من الذكور، وقد تختار زوجاً يكبرها أعواماً ليست بالقليلة، وهذا بحدّ ذاته تعبير وتعويض عن افتقاد الأب ودوره في حياتها.

لذا، وفي ظلّ ما ذكرنا من واقع مرير فرض غياباً طويلاً للأب عن أبنائه، لا بدّ لنا من تعريف وتوصيف جديد للأبوّة ودورها وأهميتها في حياة الأبناء، لأن تلك الأبوّة ليست فقط نَسَبَاً يدوّن في بطاقة التعريف أو الهوية والسجلات الرسمية لا يجوز له أن يندثر!! إنها ضرورة نفسية قبل أن تكون مادية بالنسبة للأبناء، وإلاّ سنكون أمام أجيال لا قدوة لها أو سند سوى ما يُقدّم إليها من مال وتعويضات تروي احتياجاتها من أي جهة كانت، مثلما سنكون أمام مستقبل مبهم وغير واضح المعالم بالنسبة لشكل الأسرة ودور الأب فيها.. فهل هناك من مسؤولين وباحثين من يَعي خطورة ما يجري اليوم على مختلف المستويات المادية والاقتصادية والمعيشية وقبلها النفسية والقيمية، فيعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه لجيل يكاد أن يجد نفسه مُحطّماً على مختلف المستويات!؟

العدد 1104 - 24/4/2024