أسرفتُ عمري كلّه واقفاً بصمت!

ياسمين تيسير أبو ترابي:

بمناسبة الحديث عن الحياد بمختلف تجلياته.. وبعد نوبة سعالٍ شديدة من الاستياء، ومحاولة جادة للتخلّص من بلغم الحزن الذي اعتمر حلقي، قرّرتُ أن أترك أشيائي التي تدلّ عليّ كإنسان وأغادر إلى أقرب مستعمرة روحية.

لم أعد قادراً على تحمّل نفسي، لقد فشلتُ في البقاء كبني آدم، وتلعثمت في ترجمة السطر الأول من الألم، (زهقت) من رائحة جلدي المحترق، ومللت ممارسات (بلع الريق) و(خزي الشيطان) وكظم الغيظ ومشي (الحيط الحيط).. أصبحت أخجل من أعضائي التي لم أعد أستخدمها إلاّ في تفاهات العيش اللئيم.. ماذا يعني أن أكتبَ مقالاً وجدانياً يتعاطف مع حالة الكثير من الناس، وهم الأكثر حاجة إلى لفّة شاش؟ ماذا يعني أن أُهدي أهل القطاع قصاصة بينما هم بحاجة إلى رصاصة لاسترجاع حقوقهم؟

ماذا يعني أن أُنصت مستمعاً لكلمة شجب واستنكار، مكتوبة قبل ألف دمار؟

ماذا يعني أن أقف دقيقة صمت؟

لقد أسرفتُ عمري كلّه واقفاً بصمت.

لماذا يطالبونني الآن بدقيقة إضافية حزناً على روحي؟

ماذا لو لطمتُ أو تنهّدتُ أو بكيتْ؟ ماذا لو بدأت بالشتائم على المُسبّب في حالتنا هذه؟

ثم، لأكن واقعياً، من أنا؟ كما قلتُ لكم أنا إنسان جُرِّد من الحُلم، جُرّد من المشاعر كلّها، وأيضاً جُرّد من الهوية التي تُعبّر عن انتمائه الحقيقي! أنا جهاز هاتف فُصِلَتْ عنه الخدمة جزئياً، لي أن أستقبل ألف هزيمة دولية وليس لي أن أرسل انتصاراً محلياً واحداً، لي أن أستقبل ألف مصيبة يومية وليس لي أن أرسل تذمّراً مجانياً واحداً!

ولأنني كل ما ذُكِرَ أعلاه، قررتُ أن أترك أشيائي التي تدل عليّ كإنسان وأهاجر إلى أقرب مستعمرة روحية طالباً لجوءً روحياً!

أنا الآن في طريقي إلى أبواب الروح، لعلّها تفتح لي أجنحتها، لأتعلم كيف تعتنقُ الروح صمتَ الإنسان المُثقل بهذا الألم.

العدد 1105 - 01/5/2024