الحياد هروب خفيّ!

إيمان أحمد ونوس:

تفرض مسيرة الحياة على الجميع، لاسيما المُهتمين والمعنيين بالشأن العام، اتخاذ مواقف قد تكون حاسمة وضرورية في بعض مراحلها. مراحل أو ظروف استثنائية لا تقبل الحياد ولا المُهادنة مهما كان الثمنُ باهظاً. ولا أعتقد أن هناك شخصاً – مهما كان موضعه ومكانته- لا موقف له حيال أي أمر يعترضه سواء كان شخصياً أم عاماً.

درجت بعض المجتمعات أو الحكومات على تصنيف الحياد ما بين إيجابي وآخر سلبي، وذلك لسهولة تحديد الموقف الجوهري لكل شخص من المسألة التي تفرض هذا حين مناقشتها أو التعاطي معها.. وعليه فإن المُحايد الإيجابي هو الشخص غير الرافض لأي قرار أو إجراء يصدر عن جهة ما. والعكس صحيح، بمعنى أن المُحايد السلبي شخص رافضٌ ضمنياً حسبما ترتئي هذه الجهات، وعليه يكون تصنيفه في خانة المُعارض ضمنياً أيضاً، ما يفترض الحذر منه في أفضل الأحوال!

لكن، في مُطلق الأحوال والمواقف، يبقى الحياد بشقّيه السلبي والإيجابي موقفاً غير فعّال، وبالتالي فإن المُحايد شخص غير فاعل في المجتمع أيضاً، وهو كما وصفه أحدهم بقوله: (المحايد هو إنسان لا يقف إلى جانب الظلم، لكنه في الوقت نفسه يخذل الحقّ!). والمعنى الكامن وراء هذا القول هو أن هذا الحياد مهما كان إيجابياً، فإنه لا يُعرّي الظلم أو الظالم الذي لا يقف إلى جانبه، مثلما لا يدعم الحق الذي يحتاج في غالبية الأوقات والمواقف إلى المناصرة والدعم واتخاذ المواقف المفروضة هنا. وعليه لا يمكننا أن نرى في الحياد موقفاً إنسانياً يخدم الحق المنشود أبداً.. وهذا ما لمسناه خلال ما جرى في العالم العربي منذ عام 2010 حتى اليوم. بمعنى أن هناك مسؤولين ومثقفين وساسة …الخ قد تنكّروا لمواقفهم التي كانوا يُعلنونها بين لحظة وأخرى سواء في الكتابات أو الأبحاث أو المقابلات التي أجروها سابقاً، مُتخذين موقف الحياد الظاهري ممّا جرى ويجري، وذلك بحكم شدّة تأثير الموروث الديني أو الإثني والعرقي المُتغلغل في اللاوعي عندهم، والذي ظهر في لحظة تاريخية حاسمة سواء للشعوب أو للحكّام، بحيث ارتدّ غالبيتهم إلى انتماءاتهم الموروثة التي كانوا يرفضونها بشدّة سابقاً، هذا عند البعض منهم، أمّا البعض الآخر فقد لجأ إلى هذا الحياد خوفاً من التنكيل والبطش الذي لاقاه من اتخذ موقفاً جريئاً حيال أيّ من الأطراف، أو بسبب تاريخهم الحافل بالاعتقال وما يتبعه من أسى وألم نفسي حين تذكّره. أمّا إذا ما نظرنا إلى العموم من الناس الذين لاذوا بالصمت المُطبِق، فلأنهم يخشون خسارة أعمالهم وممتلكاتهم، أو يخشون على مستقبل أولادهم.

قد يكون هذا الصمت أو الحياد مُبرراً لأولئك العامة نظراً للوعي الذي يمتلكون من جهة، ومن جهة أخرى بسبب ثقافة القطيع التي تغلغلت في المجتمع على مدى عقود من الزمن عملاً بالمقولة الشعبية (مين ما أخد أمي بقلّه يا عمّي!).

إن كل هذه المواقف من قبل المثقفين والأدباء والسياسيين وغيرهم، إضافة إلى مواقف عامة الناس البسطاء، لم تعمل على تخفيف حدّة الوجع والقهر، ولا على التخفيف من شدّة البطش والقمع من قبل أيّ طرف، بل بالعكس فقد جاءت النتائج أفظع بكثير ممّا لو كانت لهم مواقف صريحة وجريئة، وبهذا فإنهم بمواقفهم الحيادية (السلبية أو الإيجابية) لم يُعلوا من شأن الحق أو نصرته، بل كانت مواقفهم بشكل غير مباشر وبلا قصد منهم داعمة للظلم الذي وقع على الناس البسطاء الذين لا ناقة لهم ولا جمل بكل ما جرى ويجري سوى أنهم كانوا مواطنين فقدوا مواطنيتهم بعد ما جرى، وباتوا مجرّد أرقام وصور تتقاذفها المقالات الصحفية والتقارير الدولية الصادرة عن منظمات حقوقية محلية أو عالمية لا أكثر، حتى ساد الفقر وانتشر ليشمل ما نسبته 90% من البشر الغارقين في عوزهم وجوعهم ووجعهم بسبب خسارتهم لأعمالهم وبيوتهم ما دفع بأكثريتهم للتشرّد والنزوح واللجوء والهجرة مُرغمين خارج بلدانهم، بينما قلّة آخرون يغرقون في نعيم ما كسبوه خلال الحروب التي نشبت هنا وهناك.

وعليه يبقى السؤال المُحتّم قائماً ومشروعاً: هل من قيمة أخلاقية وإنسانية لهذا الحياد؟

سؤال نضعه برسم كل المُحايدين المذكورين أعلاه.

العدد 1104 - 24/4/2024