الساكت عن الحق

حسين خليفة:

رحل عن عالمنا منذ أيام الروائي السوري الكبير حيدر حيدر، القامة الإبداعية المهمة، صاحب (الفهد) و(الزمن الموحش) و(وليمة لأعشاب البحر) و(شموس الغجر) وغيرها من الأعمال القصصية والروائية المهمة.

كعادتنا نحن السوريين، بدأ مع رحيله سجالٌ كبير بين مؤيدين ومعارضين ورماديين أو وسطيين، حول مواقف الراحل. واستشهد بعضهم بما كتبه عن إدانة المواقف الرمادية والوسطية في المنعطفات الكبرى، ليؤكدوا موقفهم السلبي منه بخصوص موقفه ممّا حدث في سورية عام 2011، وما زالت مفاعيله مستمرة في تفتيت الوطن السوري، وتجويع الناس، وانفلات غرائز تجّار الحرب، وازدياد قلق الناس على مستقبلهم ومستقبل البلد، والهجرات الكبرى (أكثر من نصف سكان سورية أصبحوا خارجها) مع انفلات قوى الأمر الواقع التي تتحكّم بأجزاء الوطن السوري كافةً قمعاً وتنكيلاً بالمختلفين مع نهج كل قوة منها، وغيرها من مظاهر الخراب والدمار ومقدمات اندثار وطن وشعب.

اختلف المتداخلون كالعادة، حسب موقف كل واحد، في تسمية الحدث الانعطافي (ثورة، احتجاجات، أزمة، حرب، كارثة، مؤامرة، حرب كونية.. الخ).

من المقتطفات التي نُقلت من كتاب حيدر (أوراق المنفى)، ضمن هذا السجال، هذه العبارة المهمة والصحيحة:

(لستَ محايداً. لستَ شاهداً. كما لستَ مبشّراً. أنت هنا أو هناك. مع الوعل أو مع الصياد. مع القاتل قصداً أو مع المقتول غيلة).

بغضِّ النظر عن رأيي في السجال الدائر، وقناعتي بأن كل مبدع وكل من يعمل في الشأن العام ليس ملك نفسه، ومن حق الناس أن تطالبه بمواقف وتقيِّمه على مواقفه وطروحاته خصوصاً فيما يخص المنعطفات الكبرى كالحرب السورية المستمرة، ورؤيتي أن حيدر لم يلتزم بعبارته هذه في صمته الطويل خلال سنوات سورية العجاف حتى رحيله، وكان في ذلك مفارقاً عن سمته الأبرز وهي الجرأة في ملامسة القضايا، الجرأة التي تصل إلى حدِّ الصدام مع إحدى أكبر القوى العاتية المدافعة من الماضي، وعلاقته السيئة عبر تاريخه مع السلطات بأنواعها تشهد له، لكن هذا لا يلغي حقيقة أن صمته هنا يدينه.

بغض النظر عن ذلك، أرى فيما كتبه الراحل اختصاراً لما يجب عليه أن يكون الإنسان، خصوصاً من النخب الفكرية والثقافية والسياسية.

فلا حياد مع الحق، والساكت عن الحق شيطان أخرس.

قد يقول قائل: لكن الحق أو الحقيقة مفاهيم مطلقة وعائمة، وهي ليست احتكاراً بيد أحد أو طرف أو جهة أو دولة، بل هي بالنهاية وجهة نظر، أو كما قال كاتب سوري من أصحاب اللغة التبريرية منذ نعومة أظفاره الثقافية مرّة: الحق موزع بين الناس، لذلك يظن كل واحد منهم أن الحق معه.

نعم، لا أحد يملك الحقيقة، وكما أرى أنا أن الحق هنا في أي خلاف أو صراع، يحق لك أن ترى عكسي وعليّ هنا أن أحترم رأيك وأناقشه معك بتكافؤ واحترام، لكن هناك قضايا مفصلية وواضحة لا تحتمل التأويل، وهي واضحة لكل ذي بصر وبصيرة، مثل قضية وجود أرض محتلة ولا يجوز التنازل عنها لأي دولة كانت، أو قضية مسؤولية الحاكم المطلقة والنهائية عن تأمين مقومات الحياة الكريمة للشعب (وليس لشعبه كما درجت الأدبيات السياسية التي نمت في عصور الاستبداد بنسبة الشعب إلى الحاكم أو الخليفة أو السلطان)، فهو خادم للشعب ومُلكٌ له وليس العكس، إلى أن تنتهي (مأموريته) في الوظيفة العامة.

فدفاعك عن حالة ظلم وعسف واضحة ومكشوفة، أو صمتكَ عنها، وبحثك عن التبريرات التي ستغطي بها عورة القاتل مثلاً بالبحث عن ذرائع وعوامل خارجية وبيئة محيطة وضغوط دفعَتْه إلى أن يكون قاتلاً، هي إدانة لك ولفكرك، وتنقلك إلى صفّه.

في الصراعات المصيرية الحياد هو خيانة إذا جاء من شخصية عامة مثقفاً كان أو سياسياً أو فناناً …الخ، بينما نستطيع إيجاد مبررات له إذا جاء من عامة الناس الذي يؤثرون السلامة على المغامرة بمصيرهم ومصير أسرهم في حال جاهروا بانحيازهم للحق الذي يعرفونه جيداً، ويهمسون به في جلساتهم الخاصة خوفاً من تنكيل القوى المتحكّمة برقاب الناس.

قد يكون شاعرٌ أو روائي أو فنان أو مسرحي ذا موهبة فذّة وثقافة عالية وعمق، وقد يكون حاصلاً أو مرشحاً لجوائز عالمية أو محلية، لكن ماذا ينفع هذا المبدع إذا ربح العالم وخسر نفسه؟! كما يقول السيد المسيح.

لو سأل كل مبدع نفسه هذا السؤال لسارع إلى مراجعة ما كتبه ليرمي جانباً بكل ما فيه رائحة نفاق وتدليس ومجاملة للظلم والظالمين، أو تجاهل لآلام الناس وعذاباتهم تزلفاً للظالم أو اتقاءً لشرِّه، ويبقي فقط على ما نطق به ضميره من رفض للظلم والظالم.

في النهاية لن يستطيع ظالمٌ، مهما ملك من أدوات التنكيل والعسس والداعمين، أن يوقف مسيرة التاريخ التي تعلِّمنا أن ليل الظلم، وإن كان طويلاً، سينتهي بنهار، وحينئذٍ لن ينفعك ندمُك ـ أيها المثقف المتلوِّن ـ ولا تبريراتك، فذاكرة الناس لا تنسى.

العدد 1105 - 01/5/2024