يطفي سراجك يا سرّاج!

غياث موصلي:

بمناسبة عيد المرأة، خطرت ببالي حادثة جرت في حمص لأمّ جوزيف، وأمّ جوزيف سيدة حمصية بسيطة، ومن بستان الديوان تحديداً، زوجها أبو جوزيف خياط معروف في الخمسينات والستينيات، جوزيف شاب متحمس، تقدمي، يؤمن بأفكار سياسية معينة، وهذا الشيء كان السبب في سجنه في فترة ما من أيام الوحدة بين مصر وسورية. أم جوزيف الإنسانة البسيطة، بالرغم من بساطتها، شاركت النسوة الحمصيات أمهات المعتقلين من أمثال ابنها، وللأسباب نفسها، بطلعات احتجاجية في دمشق، بعد زيارة أولادهن في سجن المزة، سيّئ السمعة، وفي حمص أيضاً من أجل فكّ أسر ابنها وبقية المعتقلين من جميع أنحاء سورية. أحد الاحتجاجات حصل في حمص عام ١٩٥٩ أمام السرايا، وقد شاركت فيه أمّ جوزيف مع غيرها من النسوة أمهات المعتقلين، حينذاك كان عبد الحميد السراج في زيارة لحمص، والمذكور كان وزيراً للداخلية في ذلك الزمن الصعب. النساء وقفن أمام باب السرايا وبدأن في الهتاف وطلب إطلاق سراح أولادهن، أحد الهتافات كان: يطفي سراجك يا سرّاج! سمع السرّاج ما صرخت به حناجر النسوة، فاستشاط غضباً، ولكنه لم يرغب في تكبير الأمر، بلع المسبّة، كما يقال، ولكنه قرر في النهاية مغادرة السرايا من الباب الجنوبي كي لا يلتقي النسوة المتمترسات وجهاً لوجه عند الباب الرئيسي، هذا الشيء عرفت به النسوة عن طريق أحد عناصر الشرطة المتعاطفين معهن، هرعن في الحال باتجاه الباب الجنوبي ووقفن وهن يهتفن ويشتمن ويكرّرن الدعاء على السراج الذي ما كان منه إلا أن أصدر أمراً باعتقالهن في الحال وإيداعهن السجن القريب، ثم غادر محمّلاً بالغضب. بعض عناصر الشرطة حاوطن النسوة اللاتي، لم يتوقفن عن الصراخ والولاويل أمام سيارة الوزير، وأمسكن ببعضهن واقتادوهن السجن، بعضهن هربن من قبضة الشرطة، وكانت أم جوزيف إحداهن. انتبهوا الآن، أم جوزيف وصلت إلى البيت ، كان بانتظارها أبو جوزيف الذي هرع للقائها وسؤالها عن الحدث، ام جوزيف الخائفة، والفرحة في الوقت ذاته لأنها نجت من قبضة أيادي عناصر الشرطة، وتمكنت من الوصول بسلام إلى منزلها، أبلغت زوجها فرحة بما حدث، وقالت له: الحمد للرب، لقد نجوت من الاعتقال! أبو جوزيف حدّق بها وزانها من رأسها حتى أخمص قدميها، صمت برهة، وانتفض فجأة، ألا تخجلين؟! قال لها وكيف تسمحين لنفسك بالهروب وبقية النسوة في السجن الآن؟ وماذا سيقول عنا الناس؟ سيقولون أمّ جوزيف هربت، الويل لك! أم جوزيف وقفت أمامه فاغرة فاها، لم تعرف المسكينة بماذا تردّ.

أبو جوزيف تابع: وهل أنتِ أحسن من أم بشار، ومن نعمت، ومن بشيرة، ومن أخت رياض وغيرهن؟! هيّا، عودي من حيث أتيت، بوجهك إلى السجن! المسكينة أم جوزيف أحسّت بأنها أخطأت، ما كان عليها الهرب، عادت أدراجها إلى السجن وقرعت الباب. أبو مخلص السباعي الذي كان حينئذٍ مناوباً، سألها: ماذا تريدين؟ كانت تبكي، نظرت إلى وجهه وقالت له: أنا كنت مع المتظاهرات وأريد البقاء معهن! أبو مخلص نظر إليها ودوّر رأسه مستغرباً: هل جننت يا امرأة؟! ولكنّها أصرّت على الدخول، حينئذٍ، لم يجد أمامه إلا أن يقول لها: تضربي إنتي ويّاهن، فوتي!

دخلت وأغلق الباب وراءها.

الرحمة على أم جوزيف وأبو جوزيف وجوزيف طرابلسي المناضل العنيد ضد الدكتاتورية.

العدد 1105 - 01/5/2024