ثقافتنا في عالم متغيّر

يونس صالح:

بوسعنا القول إن تقدم البشرية يمكن أن يقاس بعدد الحقائق التي لم تعد تثار الشكوك حولها وأهمّيتها، وأنه ما من أحد بمقدوره اليوم (غير قلّة يدينها الضمير البشري) أن يدافع عن نظام الرق، أو عن نظرية تفوّق جنس على جنس، أو حرمان المرأة من المساواة في الحقوق مع الرجل، أو أن ينكر أنه لا إكراه في الدين، أو حقوق الأقليات …إلخ.

إذا كان بوسع البعض، وبحقّ، أن ينسب الفضل في هذه النتيجة إلى الدروس التي استقتها البشرية من وحي تجاربها عبر قرون متتالية، فلا شك أيضاً في أنه قد كان للمبدعين من المفكرين والفلاسفة والأدباء والفنانين يدٌ طولى في هذا المضمار. وفي ظني أن واجب هؤلاء المبدعين تجاه توسيع دائرة الاتفاق قد بات مضاعفاً وملحّاً في هذه المرحلة بالذات من تاريخ العالم، وذلك لسببين:

– الأول: أن معظم مجالات النشاط البشري في عصرنا هذا، من سياسية واجتماعية وثقافية وعمرانية واقتصادية، قد أخذت بمبدأ التخطيط والتوجيه الدائمين.

والثاني: أن الإنسانية مقبلة على نظام عالمي جديد له مواصفات ومتطلبات، نظام يهمّه في المقام الأول غرس مفاهيم جديدة عن الحرية والاستقلال، ومبادئ قانون أخلاقي جديد، ونشر الوعي بالمشكلات التي تواجه الجنس البشري، كمشكلات البيئة والطاقة النووية والأمن الغذائي والانفجار السكاني والتعايش بين المعتقدات المختلفة …إلخ.

إزاء كل ما يشهده عالمنا المعاصر إذاً من تغيّرات ضخمة متلاحقة، تغدو المشكلة المحورية التي يتحتم على مفكرينا وأدبائنا وفنانينا أن يُحِلّوها مكان الصدارة في قائمة اهتماماتهم هي: هل من المصلحة تكييف المفاهيم والقيم السائدة الآن عندنا وفق الأحوال الحضارية والاجتماعية والبيئية المتغيّرة في العالم ككل؟ فإن كانت الإجابة بالإيجاب، انتقلنا إلى التساؤل: كيف؟ يقترح البعض من أجل كشف طبيعة التكيف المطلوب، خلق أداة للتغيير والتوجيه العلمي الرشيد، تحلّ محلّ التغيير العفوي، وتوفر الإجابات الواضحة الشافية عن الأسئلة التالية:

* ما هي القيم الأساسية التي ينبغي أن تحكم أيّ اتجاه إلى التكيّف والمواءمة؟

* ما هي طبيعة التغيّرات الرئيسية التي يشهدها العالم المعاصر؟

* كيف يمكن مواجهة هذه التغيّرات على ضوء القيم الأساسية التي اخترناها؟

* ما هي التعديلات التي ينبغي إدخالها على القيم الأساسية من أجل ضمان كفاءة أكبر في مواجهة التغيّرات؟

* ما هي حقائق البيئة المتغيّرة التي يمكننا قبولها، وما هي الحقائق التي يجب علينا مقاومتها؟

ربما يكون هذا الاقتراح ملحّاً، ويحتاج ممثلين عن كل فئات الشعب، وبالطبع هذا أمر ضروري وبالغ الأهمية، إلا أن عالم اليوم بات يشهد سبلاً متفرقة عديدة من سبل التفكير وأوجه التخصص، كلٌّ منها له جوانبه الإيجابية والسلبية، وله تأثيره العميق الفعال في منهجية البحث، وربما يؤدي ذلك إلى إمكانية أن يسهم ذلك في سدّ أوجه النقص الملموسة في السبل الأخرى.

إننا نعلم جميعاً أن الحياة هي عملية مستمرة من التكيّف وفق مواقف دائمة التغيّر، واختيار القيم التي تحكم هذا التكيّف جزء لا يتجزأ من هذه العملية، وبالرغم من الجهود الفردية التي بُذلت، مع استنارتها، لكنها لم تكن منسّقة، فلم يسفر عنها بالتالي غير نتائج محدودة.

وقد بات مجتمعنا اليوم أشبه بخلية نحل فقدت ملكتها، قد نرى النحل مستمراً في مجيئه وذهابه، وقد نحسب هذه الحركة حياة، غير أننا متى اقتربنا من الخلية لنتأملها بعناية، ستهولنا مظاهر الفوضى التي ضربت أطنابها فيما بعد رحيل الملكة. لقد كان من حسن حظنا أن ووجهنا بالتحدي الغربي.. فقد خلق لنا هذا التحدي مشكلة حضارية ضخمة، إلا أنها لم تقتلنا بعد، ولكيلا تقتلنا هذه المشكلة، لابد من التقاء خيرة العقول في مختلف المجالات عندنا كي تتضافر على رسم نظام حضاري جديد، يضع حدّاً لعملية الانسحاب من التاريخ التي ينطوي عليها فكر الجماعات الرجعية المتطرفة عندنا.

العدد 1107 - 22/5/2024