ليس هنا.. بل هناك

د. أحمد ديركي:

في كثير من الأحيان تكون الأمور واضحة عند معرفة كل المعطيات. مع نقص المعطيات تتقلص مستويات المعرفة. ولا يتوقف الأمر عند حدود نقص المعرفة، بل قد يصل إلى حد التشويش وتشكل صورة مغاير عما يحدث أو يمكن أن يحدث. وواحدة من الأمور الأساسية هي معرفة المكان. فكل حدث مهما بلغت عظمته، أو قل شأنه، لا بد له أن يحدث في مكان محدد. فما من حدث يحدث خارج المكان، طبعاً إضافة إلى أمور وأبعاد أخرى، منها الزمان والحركة وسرعة حدوث الحدث.

لكن ما يعنينا هنا، في محاولة لعدم الخوض في هذه الشبكة المعقدة، مسألة المكان. وما هذه إلا محاولة ذهنية لفصل المكان عن بقية الأبعاد. ومن المؤكد أن هذا أمر لا يحدث على أرض الواقع. ولتأكيد قضية أن المعرفة لاكتمالها، لا تنفصل عن المكان، لنأخذ مثالاً من أرض الواقع.

عند الحديث عما يحدث يجب أن نُحدّد المكان، وإلا كانت القضية برمتها لا وجود لها. مثلاً نقول إبادة جماعية تُرتكب بحق شعب مناضل يحاول رد الإبادة عنه، وهو عاري الصدر أمام الترسانة العالمية للأسلحة الفتاكة، والعالم برمته يدعم المعتدي في ارتكاب جريمته ضد الإنسانية.

أول ما يتبادر إلى الذهن، وطبعاً هنا لسنا في لعبة الكلمات المتقاطعة: الشعب الفلسطيني. وما دام ذكرنا الشعب الفلسطيني، فهذا يعني وجود وطن اسمه فلسطين، لا دولتين ولا كل خزعبلات ما يقال عن حلول مقترحة. فلسطين هي فلسطين. وبهذا تحدّد المكان، ذلك أن لفلسطين موقعاً جغرافياً محدّداً وحدوداً محددة ولا تقع خارج كوكب الأرض. وإن وقعت خارجه فهي تحتل مكاناً ما، ولكن الجنس البشري ما زال يقيم على الأرض، لذا فلسطين تقع في مكان محدد على الكرة الأرضية.

بعد تحديد المكان تتضح صورة المكان الذي يقع فيه الحدث، وتتضح معالم الحدث، أي ما يحدث في فلسطين. وليس من حاجة لتكرار قول ما يحدث في فلسطين، لأن الجميع يعلم ماذا يحدث فيها.

تتحدد أهمية الحدث بمدى قرب تأثر الأماكن القريبة منه. مجدداً إن كنت تسكن في مبنى، وجارك نائم، والنوم حدث، فلن تتأثر بما يحدث لأنه أمر اعتيادي لا تأثير له عليك. ولكن إن كان جارك يدقّ مسماراً في حائط منزله، فسوف تسمع صوت الطرق، وقد تنزعج، وبخاصة إن كان جارك يقوم بهذا الفعل في منتصف الليل. هنا يحق لك التعبير عن انزعاجك، وكذلك بقية الجيران.

فما يحدث في فلسطين جريمة يرتكبها الكيان الصهيوني، ليلاً ونهاراً، ضد الإنسانية وليس فقط ضد الشعب الفلسطيني وفلسطين. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يستبيح هذا الكيان ما هو خارج حدود فلسطين. وللأسف فإن المحيط لا يرفّ له جفن! وكأنه في حالة من النوم العميق، بينما هو ليس كذلك. إن كان مرتهناً للخارج، لا حول ولا قوة له إلا في الشؤون الداخلية، فهذا خيار قد اتخذه. ولن نناقش هناك مدى صوابية هذا الخيار أو عدم صوابيته. لكن ماذا عن خياراته الداخلية؟

يبدو أن خياراته الداخلية، هي أيضاً مرتهنة في جزء كبير منها للخارج، فتنحصر قدراته الداخلية بالأمور الإدارية الشكلية! لأنه يبدو إن تخطى هذه الحدود فسوف يطرده صاحب المبنى! وسوف يبقى هذا (الشقي) يطرق المسمار في منتصف الليل ما دام كل الجوار لا يقول له قف عن فعلتك هذه! وصاحب المبنى يسانده.

بالعودة إلى الواقع، فقد غابت أو غُيّبت حتى الحركات الشعبية العربية الخجولة المُعبّرة عن رفضها لما يجري في فلسطين. وها هو ذاك الداعم للكيان الصهيوني، بغض النظر عن صفته الرسمية وجنسيته يزور هذا البلد العربي وذاك، من دون أن يقول له أي حراك شعبي: لا نريدك على أرضنا لأنك تدعم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. طبعاً ولا يتوقف الأمر هنا، بل إن كلّ المنظمات الدولية، من الصليب الأحمر العالمي وصولاً إلى المحاكم العالمية مثلها مثل هذا الزائر، أو الزائرة، غير المرغوب بها لأنهم جميعاً، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، يدعمون هذا الكيان في ارتكاب جرائمه ضد الشعب الفلسطيني والإنسانية. فكفى حديثاً وكذباً والتمسك بحقوق الإنسان وما شابه من أقاويل تسقط جميعها ويدفنها وهي حيّة، إن وجدت، منطقُ الأقوى!

فعلى الرغم من معرفة الموقع الذي يحدث فيه الحدث، لكن التشويش المعرفي يبقى سيد الموقف لعدم معرفة كل مجريات الحدث. لذا يمكن القول لمزيد من الايضاحات حول ما يجري، ولسمع نبض الناس ورأيهم، يمكن متابعة ما يجري هناك وليس هنا.

هناك أي ما يجري من حراك طلابي، وبدعم من الأساتذة في الجامعات الأمريكية والأوربية، وليس ما يجري هنا! هناك نسمع رفض حضور زائر يحمل منصباً رسمياً، وهنا نسمع عن ترحيب به! هناك نسمع عن قمع أجهزة السلطة للحراك الداعم لفلسطين، وهنا نسمع عن (السماح)، أي بعد أخذ الإذن السلطوي بالتحرك، لبعض التحركات الخجولة دعماً لفلسطين! فهنا لم نسمع يوماً عن اعتصامات طلابية في الجامعات العربية، وتوقيف الدروس ونصب خيم في الحرم الجامعي دعماً للقضية الفلسطينية، بل هناك نسمع ونرى ونشاهد، لذا يرجى عدم التقليد.

لنتابع مجريات ردود الفعل هناك لنفهم ما يجري هنا، وليس متابعة ما يجري هنا لفهم ما يجري هنا! لأن هنا الأمور المسموح بالتصرف بها، وفقاً لقرارات صاحب المبنى، هي الأمور الإدارية الشكلية، لا المصيرية.

العدد 1107 - 22/5/2024