أعمارنا مهدورة.. ولا حياة لمن تنادي!

إيمان أحمد ونوس:

إن أعمارنا كأفراد مهما امتدّت لا تُقارن بعمر الكون والبشرية والحضارات المتعاقبة، ولا يمكن أن تُشكّل قيمة مُضافة، لاسيما حين يعيش الإنسان فقط حياته البيولوجية التي فرضتها الطبيعة من الطفولة إلى الشباب فالكهولة والفناء، فالزمن هنا ليس أكثر من عدّادٍ لسنوات العمر دون فائدة تُذكر سوى حفظ النسل البشري لا غير. ولا شكّ في أن غالبية الناس، من مختلف الأجناس والأعراق، يعيشون تلك الحالة من الحياة التي لا تحمل قيمة أو معنى يُذكر، والقلّة فقط هم الذين يجعلون من حياتهم سمفونية شاملة تصدح بالأنغام المتنوّعة التي يملأ صداها الآفاق المحيطة القريبة أو البعيدة، إنهم وأمثالهم ممّن سبقوهم هم من صنعوا الحضارات وابتكروا منجزاتها التي تنعم بها البشرية بأسرها اليوم. وهم ربما من استقى من سيرة حياتهم وعطاءاتهم عالم الاجتماع السويدي بيير يوهانسون قوله:

(نحن نعلم جيداً أننا لن نستطيع أن نضيف وقتاً إلى حياتنا، ولكننا يمكن أن نضيف حياة إلى وقتنا).

فكم من مخترع وعالم وفنان وأديب خلّف وراءه آثاراً ما زالت حيّة في سجل التاريخ الإنساني رغم أن بعضهم لم يعش سوى سنوات قليلة لكنها كانت حافلة بالحياة والابداع، والأمثلة حاضرة في أذهان الغالبية منّا.

بالتأكيد، إن احترام الوقت وتقدير قيمته وأهميته في حياة الأفراد والمجتمعات هو الدافع الأساس وراء الاستغلال الإيجابي والمُثمر للوقت سواء من قبل الأفراد أو الحكومات، وهذا ما يجعل من بعض بلدان العالم دولاً متحضّرة ارتقت بنفسها وبشعوبها إلى مستويات تليق بحياة الإنسان وكرامته، حين كرّست ثقافة احترام الوقت وقيمته البنّاءة والمعطاءة في آنٍ معاً. أمّا تلك البلدان والشعوب التي تعيش على هامش الحياة، والتي لا تقيم وزناً لا للوقت ولا للزمن، لاسيما تلك الحكومات التي تضع الخطط والبرامج والمشاريع بشكل شبه اعتباطي وغير مدروس، مترافقاً بعدم متابعة مدى دقّة تنفيذها وفق الزمن المُحدّد لها، فإنها في النهاية تجد أنها ما زالت أمام نقطة الصفر أو أعلى بقليل، وهذا بالطبع ما ينطبق على شعوب تلك البلدان التي لم تمتلك ثقافة احترام الوقت، ولم تولِه أيّة أهمية، فنلمس عدم احترام المواعيد سواء على المستوى الفردي أو العام، وعدم الاحترام والتقدير لأهمية زمن العمل المطلوب من العاملين لاسيما في القطّاعات الحكومية، وقد يؤجَّل العمل يوماً بعد آخر دون إنجاز يُذكر، وهذا بعض أسباب تراجع تلك القطاعات وتدنّي أدائها عاماً بعد آخر، ما يؤدي بالتأكيد إلى أن تتراجع مهارات الشباب المنضوين تحت لوائها وتضمحل، بسبب عدم مواكبة الإدارات العامة لمختلف التطورات المُستجدّة والتقنيات الحديثة المستخدمة في مجال عملها، وهذا ما يدفع ببعض العمال لعدم الاهتمام بتطوير مهاراتهم أو تطوير العمل، وهنا تكون الخسارات مُضاعفة بالنسبة للحكومة والعمال على حدٍّ سواء.

لا شكّ أن ما ينطبق على الهيئات والمؤسسات والحكومات، ينطبق على الأفراد في حياتهم الخاصة والعامة، إذ نجد الغالبية من الناس غير مكترثين بالوقت، يعيشون ساعات النهار بشكل اعتباطي لا فرق بين صباح أو مساء، ولا بين أوقات العمل أو أوقات الراحة، فيصبح الفراغ سيّد الحياة والزمن بكل ما يُخلّفه من آثار سلبية، بل وكارثية في أحيان كثيرة، لاسيما لدى شرائح اليافعين والشباب من الجنسين، حتى أولئك الذين يتابعون دراستهم الجامعية والذين يقضي بعضهم سنوات طوالاً من عمره في الدراسة، فقط لأن لا قيمة للوقت ولا لتلك الشهادة التي سيحوزها بعد التخرّج، بسبب البطالة وعدم احترام مؤهلات الشباب ومهاراتهم من قبل المعنيين سواء في الحكومات أو الجامعات.

وانطلاقاً من هذا، يمكن لنا ونحن نُعايش واقعنا السوري المأساوي منذ أكثر من سنوات عشر، أن نلمس مدى الاستهتار الرسمي والشعبي بقيمة الزمن والوقت، مع أننا جميعاً بأمسِّ الحاجة إلى استغلال كل ثانية منه في إعادة بناء وإعمار ما هدّمته ودمرته تلك الحرب العبثية المجنونة، التي أطاحت بممتلكات الناس والدولة ومقدراتهم على حدٍّ سواء، لاسيما أنه منذ عام 2018  الذي حلّ فيه شيء من الاستقرار الأمني في بعض المناطق، كان من المفترض أن تعمل الحكومات وفق برامج وخطط توظّف كل ما يمكنها لأجل الخروج من تبعات الحرب وما خلّفته على حياة الناس من أزمات اقتصادية ومعيشية واجتماعية خطيرة، كي ينهض المواطن مع حكومته بأعباء البناء المطلوبة على مختلف المستويات. غير أن الذي جرى ولا يزال يجري هو اعتماد مبدأ التسويف أولاً، ومن ثمّ الإهمال المعمّد بشعارات وأجندات خاوية لا علاقة لها أبداً بالواقع المُعاش وضروراته المطلوبة في كل آن، بل بتنا نسمع في كل يوم قرارات مناقضة لما صدر في يوم سابق، إضافة إلى تخلّي الحكومات عن مسؤولياتها وواجباتها التي فرضها الدستور تجاه مواطنيها، الذين باتوا اليوم مجرّد قطيع بشري يسعى جاهداً لتأمين قوت يومه ساعة بساعة وبوسائل وأساليب اغتالت أيام الناس ووقتهم خلال الوقوف طوابير طويلة لأجل الحصول على ما تجود به البطاقة الغبية على مدار الأيام والأسابيع، حتى إن العديد من العاملين يُضطرون لإجازة ساعية أو يومية كي يستلموا مخصصاتهم!!

أمام هذا الواقع الذي حاولنا اختصاره ما أمكننا، هل من قيمة للوقت والزمن والحياة لدى الحكومات ومسؤوليها؟ وهل من وقت مسموح لأولئك المُعذّبين في الأرض أن يمنحوه حياة تليق بإنسانيتهم وكرامتهم وحياتهم ومعيشتهم التي نصّ الدستور على تأمين كل ما يلزم لأجل صونها واحترامها!؟

العدد 1105 - 01/5/2024