الانتخابات التركية.. إلى أين؟

د. نهلة الخطيب:

في عالم يسير نحو التعددية القطبية بشكل متسارع، ومتغيرات بدت واضحة ومؤكدة في بنية النظام الدولي، تسعى الدول لبسط مكانتها فيه وتعزيز قوتها، ومنها تركيا، فقد سعت وما زالت للقيام بدور إقليمي في النظام الدولي وفي منطقة الشرق الأوسط بالأخص، لملء الفراغ الأمريكي باعتبارها من القوى المتوسطة في النظام الدولي، وتمتلك من مصادر القوة الاقتصادية والعسكرية والموقع الجيواستراتيجي ما يؤهلها لهذا الدور، فهي تشكل منطقة ربط بين آسيا وأوربا، وتشكل منطقة عبور مهمة تتحكم بالمضائق والممرات المائية الحيوية التي تربط بين بحر ايجه والبحر الأسود، وهي عضو في حلف الناتو منذ عام 1952 مما مكّنها من إنشاء جيش قوي, واتضح هذا السعي جلياً بعد وصول حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان إلى الحكم عام 2002، وهو حزب سياسي له خلفية دينية إسلامية، جاء بعد فترة من الحكم السياسي من قبل الدولة الكمالية العلمانية في تركيا، وكان برنامجه السياسي تجسيد الديمقراطية وضمان حقوق الإنسان وإصلاح القضاء والاقتصاد والسياسة للصعود بتركيا إلى مستوى معايير الاتحاد الأوربي وتحقيق هدف الانضمام إليه. وبالفعل أمكن تحقيق معدل نمو اقتصادي ما يقارب 7,5% والتشجيع على الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وإقامة علاقات ودية مع دول الجوار، فتطورت علاقتها مع أوربا من خلال الانضمام إلى مؤسسات أوربية كمجلس أوربا والجماعة الاقتصادية الأوربية، وإنشاء الاتحاد الجمركي التركي الأوربي, وفي الفترة الرئاسية الثانية 2007-2011 بدأ الحزب الحاكم بإظهار نزعاته الاستبدادية، فكانت أول الخطوات تعديل الدستور وتغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي، وإلغاء منصب رئيس الوزراء وتفعيل حكم الرجل الواحد بيده السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، فتراجعت الديمقراطية وتزايدت حملات القمع ضد الاحتجاجات والمعارضة بالاعتقال والنفي والقتل، ومحاربة الأقليات كالأكراد الذين يمثلون خمس سكان تركيا، فأصبحت علاقتها مع الاتحاد الأوربي معقدة، وأصبح حلم الانضمام إلى الاتحاد صعب المنال بسبب انتهاكات حقوق الانسان, ورسمت تركيا سياسة خارجية تقوم على مفاهيم العثمانية الجديدة والقومية الإسلامية عن طريق توسيع وجودها الدبلوماسي والعسكري، فتدخلت في أذربيجان والعراق وسورية وليبيا، وقوّضت سياسة صفر مشاكل مع الجيران التي اتبعها حزب العدالة والتنمية منذ توليه السلطة، فتدهورت علاقتها مع مصر والسعودية والإمارات والبحرين، بسبب دعمها للإخوان المسلمين والجماعات المتطرفة وعلاقاتها الودية مع إيران. في الحرب الروسية الأوكرانية سعت تركيا إلى التوازن في التعاطي مع البلدين المتنازعين والبحث عن بدائل لحلفائها الغربيين، وتبني سياسة خارجية مستقلة نسبياً، فحسنت علاقاتها مع روسيا والصين، ولعبت دوراً مهمّاً في الوساطة الدبلوماسية فيما يتعلق بشحنات الحبوب الأوكرانية ووصولها إلى الأسواق العالمية، وأيدت تصويت الأمم المتحدة ضد روسيا، ولكنها عارضت العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، ومنعت مرور السفن الحربية والطائرات عبر ممراتها وأجوائها. قد تكون البراغماتية هي عنوان هذه المرحلة في تركيا وخاصة أنها اقتربت من تحقيق الحلم بتحويل تركيا إلى مركز إقليمي للغاز، ذلك أن تركيا بلد مستهلك للغاز والطاقة وفي ظل أزمات وحروب الطاقة تكون أمام إشكالية وتحدٍّ بأمنها الطاقي، وأردوغان مقتنع أن الاستقرار الاقتصادي لا يتحقق دون ضمان توريدات غاز دائمة وبأسعار منخفضة تحققها بتحويل بلده إلى مركز أساسي في أسواق الغاز يؤمن توريدات تركيا من الغاز، إضافة إلى فرض رسوم عبور الغاز لدعم الدخل القومي وزيادة النفوذ الجيوسياسي، وقد أنشأ مشاريع استراتيجية وخطوطاً دولية، وشبكة أنابيب محلية مع روسيا وإيران وأذربيجان وأخرى مع أوكرانيا واليونان لتأمين توريد الغاز إلى أوربا وإن كانت أوربا قد أوجدت بدائل للغاز الروسي، وحتماً لا عودة.

الانتخابات الرئاسية التركية على الأبواب ستحدد مستقبل البلاد واتجاهها ومستقبلها كلاعب عالمي، وسيكون رجب طيب أردوغان في مواجهة المعارضة بعد عشرين عاماً من حكمه هناك ثلاث كتل متنافسة بالانتخابات: حزب العدالة والتنمية، وحزب الحركة القومية بتحالف الشعب ومرشحه رجب طيب أردوغان، يهدف إلى الاستمرار بالسلطة وبناء تركيا الجديدة، وتحالف الأمة المكون من أحزاب معارضة ذات توجهات مختلفة هدفهم هزيمة حزب العدالة والتنمية وإنهاء سلطته وحل النظام الرئاسي والفصل بين السلطات، تجسد ذلك باتفاقية النظام البرلماني المعزز بالاتفاقية الموقعة بين أطراف التحالف كمفهوم لبرنامجهم، إضافة إلى التحالف الديمقراطي بقيادة حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد لحقوق الأقليات، وضرورة إيجاد حل القضية الكردية والالتزام بقرارات المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان.

لا شك أن أردوغان أحدث تحولاً في السياسة التركية، طموحات تختلط فيها رؤى سياسية واقتصادية, حروب وأزمات الطاقة، ومع تعثر الاقتصاد التركي تسعى تركيا إلى إصلاح العلاقات مع الحكومات التي تصادمت معها في الماضي، على أمل تحسين اقتصادها وتأمين استثمارات أجنبية هي بأمس الحاجة إليها، وكسر عزلة تركيا وورقة لخوض أردوغان انتخابات رئاسية جديدة، فهل يمضي أردوغان نحو الخلافة العثمانية والقومية الإسلامية، أو تعود تركيا إلى ما قبل أردوغان كمالية علمانية، والاحتمال ضعيف؟!

العدد 1104 - 24/4/2024