جيل التواصل الرقمي.. بوصلة للتغيير في أمريكا

د. نهلة الخطيب:

يرى أندرو باسيفتش (أن جوهر الأزمة السياسة الأمريكية يعتمد على نوعية الرجال الحكماء المؤثرين في السياسات الخارجية لهذه القوة العظمى، التي تقع على عاتقها صياغة الاستراتيجية الكبرى حول تحقيق هيمنة كونية، وتشكيل العالم ويتناسب وضرورات الأمن القومي، التي بلغت ذروتها، ولكن على ما يبدو هؤلاء الحكماء الذين هيمنوا على الإدارة الأمريكية في الفترة الأخيرة قادوا الولايات المتحدة إلى حروب بلا نهاية وتكاليف فاقت التوقعات بكثير، بايدن رئيس تائه ومشتت الذهن، يعاني من خلل أثر على النواقل العصبية في دماغه، وأثر على سلوكه وتفكيره وإدراكه، يصافح الأشباح ويعانق الهواء وأشياء غير مرئية، وأنه كمن كان يستحضر أرواحاً، منذ أن كان نائباً لأوباما، انحيازه المطلق وارتباطه بإسرائيل متجذر بعمق في حمضه النووي السياسي، سواء أحب ذلك أم لا، فهو في خضم أزمة سيتعين عليه إدارتها)، هذا وصف أرون ديفيد ميلر، المفاوض السابق في شؤون الشرق الأوسط.

لا أحد يكترث بأطفالنا حين تتحول إلى أشلاء، ومنازلنا حين تتحول إلى ركام، ولم تكتف البربرية الإسرائيلية بسياسات القتل والتدمير أضافت إلى ذلك، وبرعاية أمريكية، الترحيل والإبادة. لم يشهد العالم مثل هذا النوع من العنف والوحشية، وحيث الهستيريا الدموية في ذروتها، يعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية البدء في تشييد الرصيف البحري المؤقت قبالة ساحل غزة، لإيصال المساعدات الإنسانية الحيوية، بدل التعامل مع جذور الإشكالية، في الوقت الذي تكثف إسرائيل القصف الجوي على مدينة رفح، تزامناً مع تقارير إسرائيلية تتحدث عن استعدادات لإطلاق عملية عسكرية وإصرار نتنياهو على اجتياحها، أمريكا لا تستطيع مقاومة إغراء القوة، تريد أن لا يكون لإسرائيل خطوط حمراء، وتمارس مزيداً من المجازر وعمليات التطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني، الوحيد الذي يمارس هذا العنف ضد جبهات مختلفة هي أمريكا. الأمريكيون الغارقون في الأزمات الداخلية والأزمات الخارجية يتدخلون باسم الإنسانية لحماية إسرائيل وخروجها منتصرة، لإحكام السيطرة على قطاع غزة وتهجير الفلسطينيين بإرادتهم.

كان هناك حتى وقت قريب نوع من التعتيم الإعلامي، والرواية الإسرائيلية هي السائدة (ومن يخالفها يُعتبر معادياً للسامية)، ومع تزايد دور وسائل التواصل الاجتماعي تكشفت الحقائق والانحياز ووحشية إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، فتراجعت صورة إسرائيل وخسرت معركة الصورة، وبدأ ظهور واضح لأصوات تندد بإسرائيل وتدين تواطؤ حكوماتهم وأنظمتهم معها، مما أدى إلى انقسام الرأي العام الغربي حول القضية الفلسطينية وتناقضات داخل المجتمعات الغربية والأمريكية، (مسألة ربط النضال الفلسطيني بحماس أدى إلى تراجع فئات معينة عن دعم القضية الفلسطينية)، وأصبح هناك ما يسمى القصة الموازية، أو السردية البديلة، فكانت هناك فرصة لرؤية الحقيقة، ومشاهدة الإبادة الجماعية بحق الأطفال والنساء، وكل الضحايا سقطوا بقنابل أمريكية، فأصبح هناك ازدياد بالوعي، وصحوة تجتاح ليس فقط أمريكا، بل غالبية الدول الأوربية والعالم، وبدأ يتكون رأي عام في أمريكا وأوربا أكثر تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني، مما يعكس تحولات عميقة على مستوى الوعي عند الشعوب الغربية والأمريكية، وخاصة جيل الشباب.

حرية الرأي أصبحت مهددة في أمريكا الآن، وتعتبر جريمة في ظل ما شهدناه في الجامعات الأمريكية، مع بدء الحرب على غزة يحاول الطلاب بالموزاييك الثقافي والديني، جيل التواصل الرقمي الذي يجمع الكثير من المتناقضات، تنظيم وقفات احتجاجية، وفعاليات للتضامن والتعبير عن الرأي والجامعات تضيّق عليهم، عاقبت الكثير منهم والكثير من الأساتذة رغم السلمية، وبتصرف غير مسبوق استدعت الجامعة شرطة نيويورك وفرقاً خاصة لمكافحة الارهاب،  دمرت الخيام واعتقلت مئات الطلاب والأساتذة بتهم التجاوز والتعدّي، ووصل قمع التظاهرات إلى حد الهستيريا، هناك تطورات بعد أحداث أيلول عسكرة متزايدة للمجتمع الأمريكي، وقمع الحركات اليسارية، لم يكن أي شعارات ضد السامية، بل كانت شعارات ضد الصهيونية وضد تورط أمريكا في الإبادة، وضد الجامعات التي تستثمر في مصانع الأسلحة، غالباً إدارات الجامعات وأصحابها مرتبطة بأصحاب رؤوس الأموال، والمتورطين بمصانع الأسلحة، وغالبيتهم من الصهاينة.

تهمة اللاسامية في ذروتها، مع ردود أفعال متبادلة، مؤتمرات صحفية لسياسيين أمريكيين جاءت لتهدئة الأوضاع وعدم تفاقمها، رئيس مجلس النواب الأمريكي جونسون اتهم حماس بدعم الاحتجاجات في جامعة كولومبيا، ودعا جو بايدن إلى تعبئة الحرس الوطني في الجامعات التي تعاني مما وصفه بـ(فيروس معاداة السامية)، كلماته فاقمت الأمور وأججتها، صدى الاحتجاجات أشد هولاً على إسرائيل، نتنياهو بدأ يتخوف من اتساعها وقدرتها على التأثير ويرى أن ما يحدث في حرم الجامعات الأمريكية أمر مروع، (لقد استولى الغوغائيون المعادون للسامية على الجامعات)، هذه الحركة واتساع رقعتها بهذا الشكل غير المسبوق تؤشر إلى ظهور جيل جديد لديه وعي نقدي ويقف بالضد من السياسات الأمريكية، ليس فقط لدعمها للإبادة ودعم اسرائيل، وانما بالكثير من الأمور الداخلية، رافضاً للهرمية السياسية والإجرام المؤسساتي المنظم داخل البلاد وخارجها.

هناك بوصلة للتغيير في المستقبل لن تكون الصفوة الحاكمة المسيطرة على النفوذ الاقتصادي والسياسي هي التي تحدد شكل العلاقات مع إسرائيل، ولكن سيكون هناك قيادات من هؤلاء الشباب تحدد هذه البوصلة، وهذه نقطة خطيرة، لا سيما أن هذه الجامعات التي بدأت منها شرارة هذه المظاهرات هي جامعات القمة هارفارد وكولومبيا التي يخرج منها الساسة، وأعضاء الكونغرس الأمريكي، ومجلس الشيوخ وغيرهم، التي تفاخر بأنها مهد العلوم الانسانية، وأنتجت أكبر عدد من حاملي نوبل في الاقتصاد، تلتها موجات ارتدادية في السوربون بفرنسا، الجامعة التي تخرج فيها معظم رؤساء العالم، كشفت تناقض الخطاب الرسمي الفرنسي الذي يدّعي وقوفه إلى جانب الفلسطينيين، ويدعم إسرائيل.

الطلاب هم العمود الفقري للمجتمعات وأيّ حراك يُحدث تأثيراً كبيراً، هذه الظاهرة كظاهرة حرب فيتنام، فقد كانت الجامعات ضاغطة في إيقاف الحرب، ويفتح فرصاً للضغط على الحكومات لاتخاذ مواقف أكثر عدالة مع القضية الفلسطينية، ولو افترضنا أنها أنظمة ديمقراطية فإلى أي مدى ستؤثر التحولات في الرأي العام الأمريكي والأوربي على صنع القرار السياسي وعلى الانتخابات الأمريكية وخاصة أننا على أبوابها؟؟

العدد 1107 - 22/5/2024