أوربا المهشّمة.. المتهالكة!

د. صياح فرحان عزام:

أعلنت السلطات الألمانية مؤخراً أنها قامت بتفكيك شبكة إرهابية من اليمين المتطرف خطّطت للإطاحة بنظام الحكم القائم، ومثل هذا الخبر جديد كلّ الجدّة في أوربا، بل هو خبر صادم حسب معايير الثقافة الغربية المعاصرة، فمنذ عقود طويلة لم تشهد الدول الأوربية محاولات انقلابية على السلطات، أو وجود تنظيمات خارجة عن القانون تسعى للإطاحة بالحكومات الشرعية القائمة، ولم تعرف هذه الظواهر حتى في ذروة الحرب الباردة حين كانت القارة العجوز مسرحاً للصراع الإيديولوجي بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية الآن، كما يبدو أن أوربا تغيّرت ولم تعد تشبه ما كانت عليه قبل سنوات، عندما كانت تتخذ من نفسها موقع (أستاذ العالم)، في وقت رسب فيه هذا الاستاذ رسوباً مدوّياً في الامتحان الأوكراني مثلاً، وفي وقت بدت فيه أيضاً تابعة تبعية مطلقة للولايات المتحدة الأمريكية.

إذاً، التغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة أيقظت فيها شياطين الماضي، وباتت بعض دولها لا تختلف كثيراً عن البلدان التي طالما اعتبرتها المنظومة الغربية دولاً متخلفة عن ركب الحضارة والديمقراطية وعن دولة والقانون والاستقرار.

بالطبع ما كُشف عنه في ألمانيا، كما ذكرنا في بداية الحديث، على أنه حالة شاذة لا يمكن القياس عليها، يؤشر إلى تغيرات بدأت تزعزع الاستقرار الأوربي وتهشم الصورة النمطية الغربية التي سادت بقوة بعد الحرب العالمية الثانية، واستمرت بالهيمنة إثر انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية.

لا شك بأن هذه التغيرات لها أسبابها العديدة، منها شعور متنامٍ من النخب الأوربية بأن الواقع العالمي بدأ يتغير في غير صالح بلادهم، وأن سياسات العقود الماضية لم تكن تنظر بموضوعية إلى المستقبل، وتجاهلت فرصة انهيار النظام العالمي الحالي وإعادة بنائه وفق مقاييس جديدة تجعل من الغرب مجرّد قطب لا يختلف عن غيره من الأقطاب العالمية الكبرى.

في السنوات الماضية تلقّت أوربا ثلاث صدمات تاريخية في داخلها، كانت الأولى ضربة (البريكست) وخروج بريطانيا من التكتل، وما أسفر عن ذلك من سجالات في كل بلد أوربي حول جدوى التمسك بالاتحاد الأوربي من عدمه، ورافق ذلك صعود أحزاب اليمين المتطرف في عدة دول أوربية.

والصدمة الثانية كانت جائحة كورونا، وما نتج عنها من وضع صحي غير مسبوق، أفضى إلى عشرات الآلاف من الوفيات، وأعباء اقتصادية كبيرة بسبب سياسات الحجر والإغلاق.

أما الصدمة الثالثة وهي الأعنف والأكثر تأثيراً على الحاضر وعلى المدى البعيد، فكانت العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، رداً على استفزازات حلف الناتو وعدم التجاوب مع المقترحات الروسية حول ضمانات أمنية للجميع، فقد طرحت أزمة أوكرانيا أسئلة وجودية في أوربا، وما يمكن أن تؤدي إليه من تقلبات سياسية واجتماعية، فضلاً عن تسديدها ضربة قوية وغير مسبوقة للحياة الاقتصادية ولحياة الدّعة والرفاه التي يعيشها الأوربيون.. وبالتالي فإن هذه الصدمات الأوربية الجديدة أظهرت أن الغرب لم يعد مركز العالم وصاحب القوة والكلمة الأولى فيه.

ويرى العديد من الباحثين الأوربيين والأمريكيين أنه ليس من المستغرب أن تشهد الدول الأوربية في الأشهر والسنوات القادمة مظاهر احتجاج وتمرد غريبة وغير مألوفة في داخل المجتمعات الأوربية، لكن ما أُعلن عنه في ألمانيا يبدو أنه بداية سياق جديد يتشكل في ذلك الإقليم، وضمن هذا السياق ذاته تأتي التحذيرات من كبار القادة الأوربيين، منهم الرئيس ماكرون الذي سبق غيره في التنبيه إلى التغيرات التي تشهدها أوربا، وما قد تشهده من تراجعات سياسية واقتصادية واجتماعية قادمة.

 

العدد 1105 - 01/5/2024