أحتاج إلى المزيد والمزيد يا أمي!

ريم داوود:

يتميّز الانسان عن غيره من الأنواع الأخرى ليس فقط بقدرته على استخدام الوسائل المتاحة، بل بقدرته أيضاً على التواصل، إذ نجد أن العلاقات البشرية في صميمها تعتمد على التواصل وخصوصاً في العلاقة بين الطفل وأمه.

إن نشاط الأم اليومي وسلوكها تجاه الطفل يبني غنى سلوك الأمومة وتنوعه، ويبني في الوقت ذاته الاختلاف بين أمّ وأخرى في التعبير عن هذا السلوك.

يُقرّ معظم المشتغلين بعلم النفس بأن علاقات الطفل الأولى تُشكّل حجر الزاوية في بناء شخصيته، وأن الطفل في سنواته الأولى يقيم علاقات قوية مع الأم وهذا أمر واقعي لا جدل فيه، لكن الجدل يقوم حول سياق هذه العلاقة، طريقتها، أسلوبها، وظيفتها، أهدافها، والتبدّلات التي تحصل خلالها، وينتج عن هذه العلاقة تعلّق الطفل بأمه نتيجة إرضاء الحاجات والرغبات، أي أن هذا التعلّق ينتج عن إشباع الحاجات الأساسية، وعلى الرغم من سوء معاملة الكثير من الأمهات لأطفالهن إلاّ أننا نجد التعلّق ذاته.

  • سلوك الأمومة غريزة تتعلق بالهرمونات:

(إن التغير في إفراز الهرمونات المرافقة للحمل والولادة يضع المرأة في حالة جاهزية لتقديم العناية اللازمة للمولود الجديد)(1) وهناك تجارب أُجريت على بعض السيدات غير الحوامل من خلال حقن هرمونات خاصّة في أجسادهن أثبتت أن تغيّرات وتقلّبات عديدة تحصل لدى المرأة.

(ولعل الحدث الأهم في حياة المرأة هو أن تضع طفلها الأول، فهو ينطوي على انقلاب عاطفي كبير وعلى شعور متعاظم بالمسؤولية) (2).

أما اللّافت في الأمر والذي يحتاج لوقفة طويلة مع الذات فهو أن الغالبية العظمى من الأمهات يعتقدن أنهن يعرفن أبناءهن جيداً، وأنهن يعرفن الطريق الذي يجب أن يسلكه الأبناء وهنا تكمن المشكلة.

لقد أُجريت دراسات عديدة حول العلاقة التي يبنيها الطفل مع الأم، وضمّت هذه الدراسات عيّنات متنوعة من الثدييّات كأمهات القردة، الشمبانزي، الفئران والكلاب.

وقد أظهرت النتائج تقارباً كبيراً بين أمهات الثدييّات عامة وأمهات الانسان في سلوك الرعاية، الحنان، العناية والحماية، أي أن هناك سلوكاً موحّداً في تأمين الحاجات الأساسية للأطفال.

فهل يقتصر دور الأم على تأمين الحاجات الأولية للطفل؟ أم أن هناك مسؤوليات أعظم وأكبر تفوق العاطفة وتتفوّق عليها؟

وهنا يدفعنا السؤال للبحث في واجبات الأم البشرية وحقوق الطفل من أمه بعيداً عن الغريزة.

تتطرّق الكاتبة هيلن دوتش في كتابها (علم نفس المرأة_الأمومة)(3) إلى ذكر مفهوم الروح الأمومية، وهي تعبّر عنه بفكرتين:

١- هو مجموعة السمات التي تطبع مجمل شخصية المرأة.

٢- الظواهر العاطفية التي تبدو على صلة ضعف الطفل وحاجته للمساعدة، وهذا المفهوم يختلف كليّاً عن الغريزة الأمومية التي تنبع عن أصل بيولوجي بحت تتصف به جميع الثديات.

إذاً ما هي الروح الأمومية التي يجب أن تتوفر لدى أمهات البشر؟ وهل نحتاج لتدريب يساعدنا على التمييز بين روح الأمومة وغريزة الأمومة؟ أم علينا أن نترك الأمور للغريزة تفعل فعلها؟

وللإجابة عن هذا السؤال علينا التمييز بين التربية والرعاية.

الرعاية: هي الاهتمام بصحة الطفل وأمنه وأمانه وتأمين حاجاته الأساسية من مأكل ومشرب ومسكن، الاهتمام ببعض أموره الحياتية كواجباته المدرسية ونظافته الشخصية، وهنا لا نُقلّل من أهمية الرعاية، فالطفل يحتاج إلى الحنان والحب، لكن الرعاية من دون تربية مناسبة تنتج أطفالاً ضعافاً، رجالاً ونساء غير مسؤولين، غير قادرين على احترام ذواتهم والآخرين.

فالتربية: هي توجيه للطفل بهدف إكسابه الأخلاق والقيم والعادات الصحيحة، كما أنها بناء علاقات إيجابية مع الذات والمحيط تُمكّن الطفل من مواجهة كل الصعوبات والتعامل مع الأفراد والمجتمع بإيجابية بعيداً عن اتباع سلوكيات مغلوطة أو سلبية. وتنطوي التربية على جوانب عديدة منها:

التربية البدنية: (تهدف إلى بناء أجسام قوية من خلال تمارين فردية وجماعية ترفع اللياقة البدنية) (4).

التربية الأخلاقية: (تهدف إلى تحقيق الاحترام والكرامة البشرية داخل الأسرة والمدرسة والمجتمع) (5).

التربية الاجتماعية والنفسية: (تهدف إلى تعليم الطفل العزم والاحترام وتحمل الصعاب والعقبات وأن يجد الحلول ليحقق هدفه متغلباً على ما يعترضه من مشكلات) (6).

التربية الجنسية: وتعد أمراً ضرورياً تهدف إلى تثقيف الطفل بنوعه الجنسي وكيفية الاهتمام وحماية نفسه جنسياً واحترام الاختلاف.

التربية الروحية: أيضاً لها أهمية كبيرة ويستند إليها الآباء في بناء القيم والمبادئ الأخلاقية.

التربية العقلية: وتهدف إلى تفوق الأطفال بدافعيتهم الذاتية لا بالإكراه والترهيب، كما تهدف إلى الاهتمام باكتساب المعارف دون التركيز على التحصيل والمحصلات، فكثير من النتائج تكون إيجابية لكن مضمونها سلبي.

في الختام لا يسعنا سوى التأكيد أن الأمومة أمر بالغ الأهمية يخرج في مضمونه عن الغريزة والرغبة في الإنجاب ويدخل حيّز بناء الإنسان، فكم من أم دمّرت أجيالاً وكم ومن أم بنت أوطاناً!

المراجع:

(1) قنطار، فايز (١٩٩٢). الأمومة نمو العلاقة بين الطفل والأم، الكويت: ص٦١.

(2) المصدر ذاته، ص٦٧.

(3) دوتش، هيلن (٢٠٠٨) علم نفس المرأة- الأمومة، بيروت-لبنان: ص٢٧.

(4) هوايت، ميري، التربية والتحدي- التجربة اليابانية، القاهرة- عالم الكتب: ص٥٤.

(5) المصدر ذاته، عالم الكتب: ص٥١.

(6) المصدر ذاته، عالم الكتب: ص٥٢.

العدد 1104 - 24/4/2024