تلك المَدرسة الباقية

حسين خليفة:

ماذا يمكن أن يقول رجلٌ عن الأمومة؟!

أو لنقل ما هي مصادره الحياتية والاجتماعية التي سيستقي منها ما سيقوله بصدد موضوع طُرق مراراً وتكراراً في الأدب والفن؟!

مع أنّ كل ما قيل وكتب ورسم وصوِّر ومُثِّل على المسارح والشاشات عن الأمومة والأم، كل هذا لم ولن يشبعها، هي ومعانيها، إضاءة وتخليداً، ولن يحيط بها إحاطة وافية ونهائية، لأنها حياة مُتجدّدة ونبض مستمر منذ أول صرخة ولادة إلى أول جنين جديد يتحرك في رحم الأمّ، التي لطالما شُبِّهت بالأرض التي تعطي خيراتها لجميع أبنائها، أو بالغيم الذي يعطي الحياة للأرض كي تنبت ما يعطي للحياة لوناً ومعنى.

الآن يتحدث الرجل الذي على مشارف الستين كطفل عاش مع الأم بدايات تعرُّفه على الحياة والدفء والحب، ثم دخل معترك الحياة ويده بيد الأم خطوة بخطوة، ثم صار رجلاً وأصبحت لديه في البيت الذي أسّسه أمٌّ جديدة تقدّم له صورة عن الأم الأولى في طفولته وهي تعيد مراحل الحياة من حمل وإنجاب ورضاعة وفطام، والسهر على كلّ ما يحتاجه الأطفال من رعاية وطعام ولباس حتى يشبّوا عن الطوق ويعيدوا دورة الحياة من جديد.

أتساءل أيضاً: هل يمكن أن تتحدّث عن الأمومة دون أن يسيل الشعر والغناء والرسم والموسيقا على الورق؟!

أقصد هل يمكن أن يتحدّث إنسان عن الأمومة والأم دون أن تدخل العاطفة والمشاعر في حديثه، حتى لو كان يحاول قراءتها من منظور فلسفي معرفي أو درسي اجتماعي، أو في مقال صحفي مختصر كهذا الذي نحن بصدده الآن؟!

في محاولة الإجابة عن سؤال: هل الأمومة عاطفة غريزية أم مسؤولية تفوق العاطفية وتتفوّق عليها؟ سنجد أنفسنا وقد استعدنا صورة الأم الأولى التي أنجبتنا، وأرضعتنا، واستفاقت الليالي لتعرف سبب بكائنا دون تأفّف أو تذمّر، نظّفت أجسادنا بيديها، وألبستنا ما أتاحه لها الفقر الأسود الذي عشناه، ثم أصرّت على تعليمنا رغم ضيق ذات اليد، وجعلَتنا شباباً ثم رجالاً، لننطلق من قفصها الحريري الشهي إلى قفص جديد ـ أو أقفاص جديدة أحياناً ـ فيه ما فيه، وله ما له، وعليه ما عليه، لكنه بالمحصلة يعيد سيرة الأمومة مع أمهات أطفالنا، لنتلمّس الأمومة من منظور جديد، ونقرأها بعين أخرى، ربما هي عين المراقب الواعي، والشريك المرتاح إن صحّ الوصف.

نحن شهود البدايات التي لم يكن وعينا قد تشكّل بعد، وشهود النهايات التي استطعنا فيها أن نقرأ جيداً ماذا تعني هذه الأم القدّيسة من وجهة نظر العاطفة والروح، ثم من رؤية العقل والفكر لها، هي العامل الاجتماعي الأهم والأبقى في تكوين الإنسان وتربيته وتنشئته، وهي في هذا الجانب المسؤولة الأولى والأكثر التصاقاً بتنشئة الأولاد وتوجيههم، وزرع الوعي الاجتماعي والفكري والأخلاقي فيهم، رغم كل ما يقال عن تسلّط الأب وحضوره القوي كونه صاحب القرار الأول عموماً و(الآمر بالصرف) والقائد الأول لسفينة العائلة.

فقول الشاعر حافظ إبراهيم عن الأم: (الأم مدرسة إذا أعددتها/ أعددت شعباً طيب الأعراق) يختصر إلى حدٍّ بعيد الجانب الآخر من رسالة الأم، الجانب غير العاطفي من الأمومة التي تفيض عاطفة وحناناً، الجانب الذي يختص بمسؤوليتها الكبيرة والمُهمّة والحسّاسة عن تربية الأولاد وتنشئتهم.

هذا الأمر يتعلق أولاً بمستوى وعي الأم ومعارفها ومداركها وتكوينها النفسي والفكري والعقلي، ثم بدرجة تعاون الشريك معها، فهي المسؤولة الأولى لكنها بحاجة ماسّة وحقيقية إلى وجود الشريك إلى جانبها في زرع القيم الايجابية لدى أطفالها وتوجيههم إلى ما ينفعهم وينفع المجتمع، فلا مجال للنجاح في مهمّتها الشّاقة والمديدة في ظلّ وجود زوج عابث أو لا مبالٍ يهدم في لحظة ما تبنيه هي في سنين.

لكن نعيد القول إنّ تقصير الأم في القيام بدورها لأي سبب كان هو العامل الأول في الخلل الناشئ في العائلة، إذ طالما عرفنا في تجاربنا الحياتية والمعرفية وقراءاتنا عن أمهات قمن وحدهن باجتراح المعجزات في سبيل تنشئة مثلى لأبنائهن وبناتهن في ظلّ ظروف عاصفة ومع غياب الأب أو لا مبالاته.

ولطالما وجدنا أباً مثقفاً هادئاً خلوقاً لا يستطيع أن يؤثّر في تربية خاطئة ومشوّهة تمارسها زوجة جاهلة أو لامبالية بحق أطفالهما، رغم كل محاولاته، إذ إن المربّية الأولى والمدرسة الأولى والأبقى في وعي الطفل هي الأم.

العدد 1105 - 01/5/2024