عيد العمال فضيلة الصمت

حسين خليفة:

(نصف الحقيقة أو بعضها كذب)_ قول مأثور

قبل الحصار الإمبريالي الغاشم، قبل الحرب الكونية، قبل هذا الخراب العميم، قبل الاحتلالات التي تتوزّع على أطراف الجسد السوري المريض، حين كان الغرب والخليج وتركيا ودول العالم كلها منفتحة على سورية، وشركات استيراد وبيع مختلف أنواع السيارات والمنتجات التركية والصينية والتايوانية على اختلاف ألوانها وأشكالها تملأ الآفاق، يعني باختصار (كنا عايشين) كما يردّد الكثيرون عند الحديث عن زمن ما قبل الحرب.

قبل كل ذلك كان لدينا نحن البلد الغني بالقمح والزيتون والقطن والنفط والثروة الحيوانية والغطاء النباتي الرائع وسياحة داخلية وخارجية.

حينذاك، وتحديداً عام 2005، بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري وتصاعد مشاعر العداء للعمال السوريين في لبنان، تساءلنا أسئلة بريئة عن سبب وجود 35 ألف عامل سوري في لبنان، البلد الذي لا يملك نفطاً أو أراضي زراعية شاسعة مثلنا أو صناعة، ومورده الوحيد هو النشاط السياحي والمصرفي.

قلنا هل يُعقل أن يكون لدينا كل هذا العدد من العاملين السوريين الذين يتركون بلدهم الغني (نظرياً) ليعملوا في بلد مجاور لا يملك شيئاً ممّا نملك، يعملون في أشقِّ الأعمال وأكثرها بؤساً، ويعيشون في أسوأ الظروف التي لا تليق بالإنسان حتى يوفّروا ليرات قليلة لعائلاتهم يدفعون بها شبح الفقر والحاجة عنهم؟!

لماذا يستطيع بلد فقير بالموارد كنّا نقول عنه تابع للإمبريالية ورجعي… الخ من الأوصاف أن يمنح عماله أجوراً تقيهم ذلَّ الحاجة أو الرشوة، فيما يغرق بلد مليء بالثروات والطاقات البشرية والشعارات الجميلة والكبيرة، في الفقر والفساد، ويهاجر أبناؤه للعمل في شتّى بقاع الأرض؟!

الآن، وبعد أن أكلت الحرب من أعمارنا وبيوتنا ومصادر رزقنا ما أكلت، تصبح كل المقارنات بين هنا وأي مكان آخر موجعة ومثيرة للضحك الذي يشبه البكاء.

الآن وقد أشرق يوم الأول من أيار عيد العمال العالمي، نتساءل بحرقة: هل بقيت طبقة عاملة في سورية بعد أن توقفت معظم المنشآت الصناعية وتقلّصت المساحات المزروعة، وأصبح العمل لدى الدولة براتب صفري، وبلا إنتاج في الغالب، هو المكان الوحيد الذي يعطيك شرف الانتساب لهذه الطبقة التي تعتبر المادة الأولى والأسهل للمتاجرة والشعارات ودغدغة آمالها بتحقيق مساواة أو بعض مساواة؟!

في الأول من أيار نستمع إلى المحفوظات التي يردّدونها كل عام عن قدسية العمل والحرص على مصالح العاملين بسواعدهم وأدمغتهم، فيما لا يتعدى الأجر الشهري لعامل الفئة الأولى ثلاثين دولاراً، والحدّ الأدنى عشرين دولاراً. في حين أن متوسط الاحتياج الشهري للأسرة السورية المؤلفة من خمسة أشخاص يقارب عشرة ملايين ليرة (أكثر من ستمئة دولار)، فهل سأل مسؤول واحد نفسه، أو المسؤول الأعلى منه، سؤالاً ساذجاً وبسيطاً يهربون منه منذ عقود: كيف يرتّق العامل السوري (أو من يسمّونه بالعامل السوري) ميزانيته المنهكة، فحتى أبواب الفساد المُشرّعة على مصراعيها للكبار، والمحفوفة بالمخاطر للصغار، لم تعد تُجدِي نفعاً مع هذا الجنون الذي عصف بالاقتصاد والحياة المعيشية في الأعوام الأربعة الأخيرة، بعد الانتصار على المؤامرة الكونية.

إن كل حديث عن الانتماء إلى هذه الطبقة المسحوقة في سورية، أو الاهتمام بها، أو النظر في أوضاعها، دون إعادة نظر جذرية في نظام الرواتب والأجور لتؤمّن الحدّ الأدنى من تكاليف المعيشة، هو نفاق وتدليس مهما كان موقع وصفة من يتحدث، سواء كان مسؤولاً نقابياً أو حزبياً أو حكومياً، وطنياً أو أممياً.

تقف الكلمات والخطب والشعارات مشلولة أمام مأساة عامل لا يستطيع تأمين الحدّ الأدنى الذي يكفيه للبقاء على قيد الحياة له ولعائلته، فلتصمتوا أيها الخطباء المفوهون، اصمتوا ولا تُعيدوا سيمفونيات الكلام الممجوج الذي حفظناه عن ظهر قلب وحين نسمعه تشمئز نفوسنا!

أوقفوا مهرجاناتكم الخطابية، وحفلات التكريم الرمزية، والزيارات المخططة والمرسومة إلى (مواقع العمل والإنتاج) لتستجدوا التصفيق من عاملين بؤساء يبتسمون للكاميرا بينما هم في الواقع يضحكون على الرذاذ المنبعث من أفواه الخطباء، ثم يمضون إلى بؤسهم وغضبهم.

فقط هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.. أنقذوا حياة العامل وكرامته من الذل والجوع والبؤس!

افعلوها ولو لمرّة، أو اصمتوا مثل ملايين العمال الصامتين الكاظمين الغيظ إلى حين!

العدد 1107 - 22/5/2024