أنشودة غير مكتملة الأنغام

إيمان أحمد ونوس:

ما كان لشخصياتنا الحالية أن تكون كما هي عليه لولا تلك العلاقات الاجتماعية التي ربطتنا بالآخرين إمّا بحكم القرابة، أو بحكم الجيرة والدراسة والعمل، فقد شكّلت تلك العلاقة بالنسبة لنا مُحيطاً اجتماعياً تبرعمت من خلاله أواصر صداقة فرضت ذاتها بعيداً عن صلة الرحم والقُربى. والصداقة لا شكّ علاقة سامية في حياتنا الاجتماعية بما تشكّله من روابط وثيقة العرى والألفة والتآلف بين البشر. لكن قد تتعرّض هذه الصداقة لبعض الهزّات والتوتّرات التي ربما تكون طارئة وعابرة، وربما تكون سبباً لقطيعة دائمة، وهذا بالتأكيد عائد إلى طبيعة العلاقة والسمات الشخصية لكلا الطرفين. فكثير من الصداقات دامت زمناً طويلاً ولم تزل مستمرة رغم ما اعتراها من خلافات واختلافات. بالمقابل هناك صداقات رغم أنها شكّلت حيّزاً هاماً من حياتنا وتجاربنا، لكنها – ولأسباب قد تبدو مجهولة لطرف ما دون الآخر- تلاشت وكأنها لم تكن. وهنا تحضرني عبارة مأثورة للأديب نجيب محفوظ يقول فيها:

(أحياناً نفقد أشخاصاً للأبد ولكنهم ليسوا أمواتاً، بل ماتت فيهم الصفات القديمة التي أحببناها). وفي هذا القول ما يُفسّر أسباب انقطاع أواصر تلك الصداقة التي قامت أساساً على مفاهيم واهتمامات أو قواسم مشتركة، غير أن طبيعة الحياة، التي تفرض على الجميع التغيّر والتغيير أو التحوّل في المفاهيم والقيم، من شأنها فعلاً أن تُنهي تلك العلاقة التي عاشت انزياحاً غير مقبول أو غير مريح في جوهرها.

وفي اتجاه آخر، قد نعيش صداقات أخرى قوامها الثقة المُطلقة في الآخر، وعدم التوقّف لحظة على ما يبدر منه من تصرفات تؤذي تلك الصداقة، لكننا وبلا أدنى شكّ فيه نعود لتبرير فعلته أو تصرفه على أنه غير مقصود، ولا نفكّر ولو مجرّد تفكير بسيط في عمق أسبابه، لنكتشف لاحقاً أن دوافعنا الطيّبة تلك كانت في غير موضعها، حينما نُدرك وربما في وقت متأخّر أن هذه الصداقة أو العلاقة لا يمكن أن تستمر، ولكن بعد أن نكون قد خسرنا رهاناً فرضته تلك الطيبة والعفوية الزائدة، وهذا ما عبّر عنه غابرييل غارثيا ماركيز بقوله: (لو كان بيدي أن أمحو لمحوتُ سنواتٍ من الطيبة الزائدة عن الحد، والسذاجة التي تصل إلى الاعتقاد بأن كل الناس أنقياء).  فعلاً، ليس كل الناس أنقياء، كما أنهم ليسوا كلهم أشقياء أو أشرار، لأن هناك أصدقاء ورغم رحيلهم جسداً عن دنيانا، لكنهم فينا باقون وفي ذاكرتنا أبداً حاضرون، لما خلّفوه من أثر إيجابي في الشخصية والفكر والثقافة، وبما عزّزوه من مكانة للآخر الحيّ فينا رغم الغياب، ولما امتلكوه من نقاء السريرة وطيب الأخلاق.

بالتأكيد، إن ما ينطبق على علاقات الصداقة ينطبق بشكل أو بآخر على علاقات القرابة وما في حكمها، فرغم صلة الدم المفروضة بحكم القيم الدينية والاجتماعية وحتى الإنسانية، لكننا نجد أنفسنا أحياناً في مواقف تفرض علينا اتخاذ قرارات بشأنها لا نكون راغبين بها إنما فرضها الطرف الآخر في هذه العلاقة، مواقف تدعو لبتر أواصرها مهما كانت خسارتنا الاجتماعية أو العائلية، فقط لأن هذا الآخر دفعنا مرّاتٍ عدّة ودون مبررات معقولة أو مقبولة لاتخاذ هذه الخطوة الصعبة من خلال مواقف ومسلكيات اغتالت كل ما من شأنه أن يُبقي ولو على خيط واهٍ يربطنا به غير آسفين، لأن العلاقة التي تبقينا في قلق وتوتّر دائم يؤثّر وباستمرار على مسار حياتنا لا يمكنها أن تعيش وتستمر مهما بلغت صلة الدم من قوة وفروض.

رغم قناعتنا بأن لا ثبات في الحياة أو العلاقات بمجملها، تبقى الصداقة تراتيل ينشدها الأصدقاء فيما بينهم لتغدو الحياة أسهل وأجمل وأعمق، لكن ربما تكون أيضاً أنشودة غير مكتملة الأنغام.

العدد 1105 - 01/5/2024