التّخلّي في علاقاتنا الاجتماعية

تهامة الدعبل:

يقول فرناندو بيسوا:

(كل الذين قطعت علاقتي بهم، بطريقة أو بأخرى، هم الذين ناولوني المقص).

عبارة استوقفتني كثيراً، وفكَّرت: بما أنَّنا اجتماعيون بالفطرة، فهل فلسفة التخلي سائدة في مجتمعنا أم أنَّها مجرّد اقتباسات متداولة حتَّى إذا ما جئنا إلى الواقع ترانا نتمسّك ببعضنا إلى آخر لحظة؟

يقول جبران خليل جبران في كتابه العظيم (النبي): (إن المحبة لا تعطي إلاّ لذاتها، لا تكونوا إلاّ كالشجر يعطي دون مقابل، قدر الشجر المثمر أن يعطي لأن الشجرة إذا لم تثمر كانت بوراً ويباساً، كونوا كما الشجر لا يسأل من سيأخذ من هذا الثمر، الشجرة تعطي لأن قدرها أن تعطي).

اقتباس يشير إلى أهمية البذل والعطاء دون مقابل، لكنَّني هذه المرة أخالفك الرأي يا جبران، فالعلاقات الاجتماعية قائمة على المنفعة المتبادلة بصورة أو بأخرى، حتَّى في الحالات التي نجد فيها أشخاصاً يبذلون جلَّ ما بوسعهم في سبيل استمرار علاقتهم بمن يحبُّون ولا ينتظرون مقابلاً، إذا ما غصنا إلى أعماقهم نجد في داخلهم رغبة في الشعور بالأمان بوجود هذا الشخص في حياتهم، أو خوفاً من شعور الوحدة في غيابه، أو يُعطي لأنه يتوقع أن يُقابَل عطاؤه بمعاملة أفضل من الشخص الآخر.

وبالعودة إلى الشجرة سنراها لا تُعطي ثمارها إذا لم تأخذ حاجتها من الماء والتربة وأشعة الشمس والظروف المناسبة لتعيش، بمعنى أنَّ هذا الكون كله قائم على الأخذ والعطاء المتبادل، وإن لم يكن متبادلاً فستكون النتائج كارثية حتماً.

أما إن نظرنا إلى الأمر من ناحية طبقية فنجد العلاقات الاجتماعية في الطبقات الفقيرة تختلف اختلافاً جذرياً عنها في الطبقات البرجوازية الغنية، إذ إنَّ الأغنياء يبنون علاقاتهم الاجتماعية على أساس المصلحة المادية، ففي الزواج ترى زواج الأغنياء في سبيل تراكم الثروة وتمتين العلاقات والوصول إلى نفوذ أكبر، أما العلاقات الاجتماعية في البيئة الفقيرة والطبقات ذات الدخل المحدود فتحكمها القيم والعادات والعواطف، فترى الفقير لا يفكّر بأن يضحي بابنته أو بولده من أجل زواج يعطيه المال، بل يبحث عن المحبة الصادقة والعلاقات الحسّاسة ذات الصفاء الحقيقي.

هذا في المجمل العام، غير أن التعميم خاطئ بالتأكيد، ففي بعض الأحيان نجد آباءً وبناتٍ من الطبقة الفقيرة – لا سيما في الظروف الحالية التي نعيشها – يبحثون عن الزواج بالأشخاص من الأغنياء أو المقتدرين ماديَّاً في سبيل التخلّص من الظروف المادية الصعبة التي يعانونها، وقد نجد غنياً يبحث عن علاقات سامية وصادقة بصرف النظر عن المصالح المادية والطبقية.

بالتأكيد لا نغفل أثر التعاليم الدينية المُتجذّرة فينا والضوابط الاجتماعية التي تعطي نمطاً من العلاقات يكون فيه التخلّي صعباً لا سيَّما على الأنثى التي تخشى نظرة المجتمع وكلام الناس وصعوبة تأمين أبسط مستلزمات العيش، فيكون الانفصال آخر ما تفكّر به، وفي الحالات التي يتم فيها الانفصال فعلاً يكون الطرفان قد استنفذا أقصى محاولاتهما في استمرار هذه العلاقة.

وبعيداً عن الواقع الاجتماعي والطبقي وغيره، فإن لكل إنسان هامشاً من الخصوصية التي تحكمها التجربة الشخصية وتسمو فوق الضوابط الاجتماعية وسواها، فنجد أشخاصاً سريعو التخلّي والابتعاد ظناً منهم أنَّها آلية دفاع عن النفس، فلا يحبّذون أن يتخلّى عنهم الآخر ويشعرون بهوانهم لدى من يحبّون، لذا تراهم يسارعون إلى قطع هذه العلاقة لحماية أنفسهم، ومنهم من يتمسّك بالآخر حتَّى آخر رمق ويرفض التخلّي عنه بسهولة لسبب أو لآخر، وأنماط كثيرة من الأشخاص تحكم تصرفاتها التجارب الشخصية وحدها.

في النهاية أرى أن على الإنسان أن يوازن ما بين موروث خبراته والضوابط المحيطة به وطبعه الشخصي، فلا يُسرع بالرحيل ويحرم الآخر فرصة الدفاع عن نفسه ويقطع علاقة من الممكن أن تكون ناجحة ومريحة، وفي الوقت نفسه لا يتمسّك إلى حدٍّ يسلبه كرامته وهو يحاول إبقاء أواصر هذه العلاقة، وتبقى خير الأمور أوسطها.

العدد 1107 - 22/5/2024