حين يغادر الآخرون

حسين خليفة:

ماذا يترك الآخرون حين يخرجون من حياتنا؟!

الآخرون أهلاً وأقارب وأصدقاء ومحبّين كما كلّ من، وما، يحيط بنا، يأتون، ويزرعون على صفحات الذاكرة صورهم ورائحتهم وأصواتهم وسِيرهم، ثم يمضون تاركين كل أشيائهم لدينا: الثمينة منها والرخيصة، الخفيفة والثقيلة، الجميلة والقبيحة، مُفسحين المجال لقادمين جُدد.

يكفي أن يستعرض أحدنا سيرته الأولى فيتذكر_ إن بقي متّسع في الذاكرة_ أصدقاء وصديقات الطفولة والصبا والشباب ثم الشيخوخة، ويتذكّر أسماء الجدات والأجداد وأخوال الأب أو الأم وأعمامهم وعماتهم وخالاتهم حتى يصل إلى الأقارب القريبين الذين رحلوا وتركوا أشياءهم هنا، في أعماق الروح.

هؤلاء كلهم ليسوا عابرين، إنهم عبروا أجساداً وحضوراً محسوساً، بعضهم توفاه الله، آخرون هاجروا وابتلعتْهم المنافي، لكنهم بقوا سيرة وذكرى، وتركوا ورودهم أو أشواكهم في الذاكرة.

لعلَّ هذه الحياة أقرب ما تكون إلى صالة عزاء، يخرج الجالسون حين يجدون أنّ الصالة بدأت تمتلئ، ليتيحوا مجالاً للآخرين للمرور والقيام بأدوارهم، هكذا هي الحياة، كلما دخلها أحد ما تظنه الأخير فتفاجأ بقادمين جُدد، وهكذا دواليك.

العبرة الأكبر في الصداقة، تلك القيمة التي تحمل فيها معاني ومضامين عميقة تجمع الحب والوفاء واللهفة والشوق.

لكن هل من صداقة دامت العمر كلَّه؟!

نعم، هناك صداقات عمّرت طويلاً، لكنها قليلة، تكاد تُعَدُّ على أصابع اليدين، فكثيرةٌ هي الصداقات التي انتهت بسبب أو من دونه.

ينطلق هنا القول المعروف: تعدّدت الأسباب والموت واحد، والموت هنا لعلاقة الصداقة.

لماذا يفترق الأصدقاء؟!

لن أدّعي حصر الأسباب، لكني سأحاول قدر الإمكان الاقتراب منها في العموم.

فكما أنّ البشر والحيوانات والأشياء تشيخ، كذلك الكثير من العلاقات تصيبها الشيخوخة، وبعضها تُصاب بالشيخوخة المبكّرة، لخلل في تكوينها ومقومات تطورها، وهذه من طبائع الأشياء والظواهر، هنا يمكن اعتبار انتهاء العلاقة أمراً طبيعياً بتسلسل أعمار الأفراد والدول: (ولادة ـ طفولة ـ شباب ـ هرم ـ موت)، أو بتعاقب الفصول: شتاء (ولادة) ـ ربيع (صبا وشباب) ـ صيف (رجولة) ـ خريف (شيخوخة وموت).

وفي هذه الحالات من المحال أن نتمسّك بالعلاقة، أو نحاول إعادة الروح إليها، لأن قوانينها الداخلية وعوامل حياتها وانتعاشها قد انتهت، كما لو أنها أرض هجرها المطر.

يحدث أحياناً أن كبير العائلة (رجلاً كان أم امرأة) يعتاد أن يكون هو الآمر الناهي على الزوج/ة والأولاد والأحفاد، لكن عندما يكبر الصغار ويصيرون رجالاً بالتزامن مع تقدم كبير العائلة في السن وعجزه/ا عن القيام بكل مهامه، تنتقل الأمور رويداً إلى الأبناء والبنات، ويتحول الرجل المُهاب الذي كان قائداً الى متفرّج على ما يفعله الأبناء والبنات بإرثه وهو على قيد الحياة لا حول له ولا قوة، وإن كان احترامه وتقديره يبقى إلى آخر يوم في حياته، لكنه احترام شكلي وأخلاقي لا رصيد عملياً له.

هكذا هي العلاقات لا تبقى ثابتة إذ لا ثبات في الحياة ولا سكون، حيث السكون هو موت.

في حالات أخرى تجد صديقاً يبدو خلّاً ورفيقاً ملازماً لك في أيام الرخاء، ثم لا تلبث شدّةٌ تعتري حياتك أن تكشف عن حقيقته ومعدنه، إذ يدير لك ظهره حالما تصبح في ضيق، وينساك، وينسى العشرة والخبز والملح كما يقال.

هذا النوع من الأصدقاء خسارته مكسب، وهو من يعطيك المقص لإنهاء العلاقة غير مأسوف عليه وعليها.

الصديق الخائن أيضاً يدخل في هذا التصنيف، الصديق الذي يطعنك في الظهر، ويغدر بك، وقد أمّنته على الروح والمال.

هذا لا يكفي أن تنهي العلاقة معه، بل واجب عليك أن تفضحه وتكشف للآخرين فعلته وغدره حتى لا يفعلها مع ضحية أخرى.

هناك أيضاً ما يقوله الشاعر بشار بن برد:

إذا كنتَ في كل الأمور معاتباً                               صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه

فالعتب الكثير والمتكرر و(النق) يطرد الأصدقاء من حولك ويجعلهم يتحاشون اللقاء بك.

أما الأقارب فحديث آخر يختلف عن الصداقة التي استفضنا فيها، إذ إنّ القرابة ليست باختيارك بل هي واقع موجود لا مهرب منه، لذلك ترى معظم علاقات القرابة هي أداء واجب ومجاملات إلا إذا اقترنت القرابة بالصداقة، فيكون الآخر قريباً وصديقاً، حينئذٍ تصبح الأواصر أقوى وأشد، وتصبح خسارة الصديق أدهى وأمرّ.

أخيراً لا بد من الإشارة إلى أنه لا فراغ في الحياة، فخسارة أصدقاء تقترن غالباً بالتعرف إلى أصدقاء جُدد، بعد أن تكون قد راكمتَ خبرة وفراسة في اختيار الصديق من تجربتك وتجارب غيرك، فلا وجود لإنسان سويّ بلا صداقات ومحبّين.

العدد 1105 - 01/5/2024