رغم الخيبة والبؤس.. ما زلنا نحمل قنديلنا بحثاً عن آمالٍ تائهة

إيمان أحمد ونوس:

حين تنساب سنوات العمر كجدول متدفق يخطُّ مساره في فضاءات الزمن، تصير الأعياد مؤشّراً متسارعاً بين عقارب الوقت.

وحين يحطُّ شلال العمر رحاله في بحر الحياة، تُصبح قادمات الأعوام مسرحاً متسارع الإيقاع ستخبو أضواؤه رويداً رويداً وصولاً إلى خاتمة ربما مشتهاة.

لكن، عندما تكون الأعوام حافلة بقهر وحزن مستديم، تفقد الأعياد بهجتها، فتغدو متواليات لاتشاح السواد والعبثية تجاه الزمن الآتي، ليأسٍ تغلغل في النفوس المعذّبة.

هكذا هي سنوات العمر تمرُّ بسرعة لم نعهدها ونحن في ريعان الشباب، رغم أننا كُنّا نسابق الزمن لنصل إلى ما نصبو إليه ونحلم بتحقيقه حينذاك.

فحينذاك حُمِّلنا وحَمَلنا قيماً ومفاهيم ومبادئ جعلتنا نرى الحياة والناس من منظار الأخلاق الإنسانية، التي دفعتنا للتعامل مع محيطنا وحياتنا بإيجابية شبه مُطلقة، كي نرى المجتمع الذي نحلم به، مجتمعاً مثالياً بعموم أفراده وقادته من الساسة أو المثقفين والمفكرين والأدباء …وغيرهم. وبدأنا حينذاك نرسم أحلامنا بشعارات كانت وما زالت رغم كل النتائج والخيبات نهج حياة وميثاق عمل لا نحيد عنه مهما اعترضنا من أزمات ومشاكل واختبارات، وحتى إخفاقات غير متوقّعة، كُنّا نحاول جاهدين تخطّيها بأقلّ الخسائر أو الهزائم، ونُعيد ترميم ما اكتشفنا أنه خاطئ في لحظة ما. ولأجل أن تكون لنا بوصلة دقيقة تتماهى مع أهدافنا ورؤانا في الحياة، انتسبنا إلى أحزاب وجدنا فيها ضالّتنا الفكرية والثقافية وحتى الأخلاقية بمختلف اتجاهاتها وتسمياتها، وبدأنا نغذّ السير بإصرار وعزيمة لا تلين، يُغذّيها أملٌ دائم بالوصول إلى مجتمع العدالة والمساواة بين الجميع.

اليوم، بعد مرور عقود وعقود على أحلامنا وآمالنا تلك، وبعد أن حفر الزمن تجاعيده في النفس مثلما خطّها في الجسد والوجه واليدين اللتين صارتا ترتعشان وهي ترسم وتكتب خواطر وهواجس عن عمر مضى دون أن نصل إلى مبتغانا.. بعد كل هذا، نقف اليوم فنجد أننا عُدنا القهقرى لنبحث مُجدّداً عن مبادئنا وأحلامنا وشعاراتنا التي رسمناها بخطوط من ثقة وعزيمة حقيقية، لكنها تلاشت منّا في زحمة التطور والانتصارات الواهية والوهمية المُخيّبة لكل التوقعات والآمال، بفارق أننا بحثنا عنها حينذاك والدفء والفرح والأمل كان يغمرنا ويجعلنا مبهورين بكل إنجاز نُحقّقه، ولم نكن نعرف للخوف طعماً قطّ، بينما اليوم وبعد كل ما جرى، وبعد كل الخيبات والهزائم والانكسارات، على المستويين الشخصي أو العام، ما زلنا نبحث عنها، لكن برد الخوف والخيبة والحذر قبل برد الشتاء العاري من أي ومضة دفء، بات ينخر طاقاتنا ويُشتّتها باتجاهات تفقد خلالها مسارها المرغوب والمطلوب.

اليوم، نواجه الحياة ومُتغيّراتها بحسرة تجُزُّ عُنُقَ مبادئنا على عتبة عصر المال والسطوة النابعة من أخلاقيات لم نعهدها، ولم نضعها سابقاً في حساباتنا كي نستأصلها حين تُصادفنا، فقط لأنها حينذاك كانت إن وُجِدَت عند البعض تُعتبر شاذّة ينفر الجميع منها بلا استثناء، ويُشار إليها بالبنان كي يتنبّه لها من لا يراها.. وما يقهرنا اليوم أنها ذاتها باتت أخلاقيات سائدة ونحن الاستثناء المرفوض في زمن التّزلّف والتملّق والانتهازية بكل معانيها وتسمياتها واتجاهاتها.

اليوم ورغم قناعاتنا الأكيدة بأننا كمن يبحث عن إبرة في بيدرٍ من قش، نحمل قنديلنا في وضح النهار بحثاً عن مبادئنا التي تاهت عنّا في غفلة قاتلة، وبحثاً عن إنسانيتنا التي اغتالها الجشع والفساد والاحتكار والاستئثار بالمواقع والمناصب حتى ضنّت علينا لقمة العيش الكريم. أجل، ما زلنا نبحث وسنبقى نبحث رغم استغاثات الجوع والبرد والوجع، لأن الأمل يحدونا بأنه لا يمكن أن يصحُّ إلاّ الصحيح ولو طال الزمن، أو رحلنا دون الوصول إلى ما نسعى ونسمو، ولأن ما نراه اليوم ما هو إلاّ فقاعات تطفو فجأة وتنطفئ بأسرع ممّا طفت مهما استمر عمرها، فما يجري ليس نهاية التاريخ، وإنما بداية لتاريخ أجمل تخطّه إرادة الشعوب الطامحة دوماً للعدالة والمساواة والأمان فقط لأننا محكومون بالأمل، كما قال الراحل سعد الله ونوس.

العدد 1105 - 01/5/2024