بناء الإنسان طريقنا الصحيح لبناء الدولة والمجتمع

إيمان أحمد ونوس:

ممّا لا شكّ فيه أن الحرب التي مضى عليها اليوم أكثر من عشر سنوات قد دمّرت كل شيء صادفها، حتى باتت بعض المدن والبلدات خراباً تنعق فيه غربان النهب والفساد بما يحلو لها، مثلما نكبت غالبية البشر وقضى بعضهم بنيرانها، فمات من مات، والباقون على قيد الحياة بات معظمهم رماداً تذروهم رياح عاتية من التيه والفقر والجوع حتى أصبحوا أشباه بشر لا يملكون من أمرهم شيئاً أكثر من سعيهم خلف لقمة تبقيهم أحياء فقط لأنهم لا يملكون حتى حقَّ موتهم المنشود في كل آن.

هذه الحرب، وما سبقها من سنوات كانت قد خلخلت أركان المجتمع واستقراره على مختلف الصُّعُد لأسباب متعدّدة اقتصادية، مناخية، سياسية …الخ جعلت من هذه الحال أحد العوامل الهامة التي مهّدت لنشوب تلك الحرب العبثية بما آلت إليه من نتائج كارثية على المستويات كافة، نتائج بات جميع السوريين يعرفونها ويعيشونها لحظة بلحظة وبكل تبعاتها المُفجعة والمؤلمة والخطيرة على مستوى الدولة والمجتمع والفرد.

من المؤكّد أن النهوض من قاع تلك الحرب يحتاج إلى سنوات تفوق السنوات التي استهلكتها في التدمير والتخريب والقتل، مثلما يحتاج إلى جهود جبّارة ومُكثّفة لإعادة البناء في مختلف الاتجاهات، وكذلك إلى إمكانات مادية ولوجستية وبشرية كبيرة تُسرّع بعملية البناء، إذا ما توافرت النوايا الإيجابية لدى المسؤولين عن إعادة الإعمار. ولكن، من المؤكّد أيضاً أن إعادة بناء المدن والمعامل والمدارس وعموم المرافق الحيوية العامة والخاصة ستُنجز بزمن قياسي إذا ما توافرت كل الظروف والإمكانات والنوايا المذكورة أعلاه. غير أن هناك إعادة ترميم وبناء أقسى وأصعب وأطول زمناً من كل ما ذكرنا.. إنها إعادة ترميم الإنسان وبنائه، في بلد شهد من الويلات والفظائع ما شهد في ظلّ قيم أخلاقية ودينية واجتماعية تعرّضت هي الأخرى لمختلف أنواع الهدم والتشويه لدى عموم الناس، الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضُحاها في مواقع مُغايرة تماماً لما كانوا عليه أو ما اعتادوه سابقاً وعلى مختلف المستويات، فقد نهضت بعض الشرائح من قاع الفقر إلى قمة الترف، بفعل ما قامت به من مهام وسلوكيات خلال الحرب وما بعدها، بينما غاصت الكثير من الشرائح التي كانت تنعم بحياة مقبولة في بئر لا قرار له من الفقر والجوع وعدم القدرة على الاستمرار في تأمين أبسط احتياجاتها الضرورية، إضافة إلى انعدام الإحساس بالكرامة والأمان بسبب تعرّضها لمواقف ومسلكيات أولئك المترفين الجُدُد وسطوتهم.

بالتأكيد، كان هذا الواقع  سبباً أساسياً في تفشي الكثير من الظواهر السلبية في المجتمع، والتي كان بعضها موجوداً لكنه مُستترٌ بأردية متنوعة من التسميات التي تصبُّ جميعها في خانة الفساد والإفساد على مختلف المستويات العامة والخاصة، كالرشوة والاختلاس والنصب والاحتيال، وكذلك الظواهر الخطيرة كالمخدّرات والدعارة، وغيرها الأكثر خطورةً والتي تمسُّ القيم الأخلاقية والمجتمعية، كذلك لا يمكننا تجاهل مختلف مظاهر العنف التي سيطرت على عموم شرائح المجتمع بنسبٍ متفاوتة خلال الحرب وبعد انتهائها، ما جعل من هذا العنف لغة التواصل والتعاطي في العديد من العلاقات المجتمعية والمهنية، حتى بات القتل أسهل من مشاجرة بسيطة، مثلما صار الخطف وطلب الفدية وسيلة كسب الكثيرين ممّن سوّلت لهم أنفسهم السطو على أملاك وممتلكات الآخرين بالقوة والإكراه، أو لمجرّد الانتقام والثأر لتصفية حسابات قديمة أو جديدة نشأت بفعل المواقف المُتّخذة من قبل بعض الأطراف خلال الحرب.

لا شكّ أننا إذا ما أردنا تعداد كل المظاهر والظواهر السلبية في المجتمع، فإننا سنجد أنفسنا أمام الكثير منها ممّا لا يتسع المجال هنا لذكرها جميعاً، في الوقت الذي باتت معروفة ومألوفة للجميع من أفراد عاديين إلى مسؤولين وهيئات رسمية محلية ودولية. غير أن المطلوب هنا ومن الجميع كلٌ في موقعه ابتداءً من الأسرة وانتهاءً بأيّة جهة مسؤولة في الحكومة وغيرها، هو التّصدي لمثل هذه الظواهر ليس بذكرها فقط، وإنما بالتعامل مع أسبابها ومُسبّباتها من ظروف وسلوكيات وأخلاقيات فرضت ذاتها بقوة البطش بمختلف أنواعه المادية والمعنوية أحياناً، وأحياناً أخرى بفعل ما تُروّج له العديد من الفضائيات ومن له مصلحة في الترويج لقيم تلبس ثوب الحداثة والتحضّر ظاهرياً، بينما تبتغي أهدافاً مُغايرة في مضمونها لما يحتاجه مجتمعنا كي ينهض من قاع تخلّفه وفقره وتلاشيه المحتوم، إذا ما بقيت الأمور على ما هي عليه اليوم.

نعم، يجب التّصدي وبجرأة لمختلف الظواهر السلبية أو اللاأخلاقية التي باتت تؤرّق العديد من الآباء والمُربّين والمسؤولين باعتبارها ظواهر تسعى وتعمل على المدى البعيد من أجل خلق أجيالٍ جديدةٍ بأخلاقيات لا تُقيم وزناً لأي شيء مهما كان ضرورياً أو هامّاً، أجيالٍ لا مباليةٍ لا بذاتها ولا بمحيطها، وبالتالي الوصول إلى مجتمع مشوّه ومشوّش لا توصيف له في المجتمعات الإنسانية. وهذا بالتأكيد لن يتحقق إلّا إذا وضعنا أمام أعيننا مهمة ترميم الأجيال التي عاشت محنة الحرب وهي على دراية شبه كافية بما حدث، لكنها أُصيبت بالعديد من النكسات والخيبات والأمراض النفسية، وهي اليوم بحاجة إلى من يأخذ بيدها لترميم ذاتها والعودة إلى أقرب نقطة كانت عليها حين اندلاع الأزمة قبل عقد من الزمن. والمهمة الأخرى والأكثر تعقيداً هي إعادة بناء جدّية وإيجابية للأجيال التي ولِدَت ونشأت وترعرعت خلال سنوات الجمر والتيه، ذلك أن هذه الأجيال لم تشهد سوى العنف لغة وحيدة للتواصل بينها وبين الآخرين أينما حلّت، لاسيما أولئك الذين عاشوا النزوح والتشرّد والتهجير، وبالتالي نحن أمام أجيال تشرّبت كل القيم السلبية والدخيلة التي رافقت الحرب، أجيال تحتاج إلى جهود جبّارة ومستمرة لإنقاذها وإعادتها إلى إنسانيتها الطبيعية وقيمها الإيجابية.

هنا، علينا جميعاً ألاّ نكتفي بالإشارة والتحدّث عمّا آلت إليه تلك الأجيال، وفي سياق انتهاج سياسة إعادة الإعمار، علينا ألاّ نكتفي بإعمار ما هدّمته الحرب من بنى ومدن وبلدات، ومن ثمَّ ننتبه للإنسان، لأنه ما من إمكانية لهذا إن لم تتحقق عملية ترميم النفوس المهشّمة والمشوّهة، إضافة إلى إنقاذ أجيال الحرب ممّا يعرقل إنسانيتها وعطاءاتها المرجوّة منها مستقبلاً. فممّا لا شكّ فيه أن إنساناً يفتقد لكل مقوّمات إنسانيته غير قادر على فعل أيّ شيء مهما كان بسيطاً.. فكيف بإعادة إعمار وبناء المؤسّسات والدولة التي تحتاج إلى جهود أناس مخلصين وموفوري الكرامة بكل معانيها المادية والمعنوية؟

إن بناء الإنسان اليوم أهمّ وأكثر إلحاحاً من بناء المؤسّسات، أو موازياً لها بالأهمية والضرورة، لأنه حين يوجد الإنسان المُشبع بمختلف احتياجاته، الإنسان المحترمة إنسانيته أولاً وقبل كل شيء، فإنه يحترم الآخر بالقدر الذي يحترم فيه ذاته، هنا فقط يكون بناء المؤسّسات جيداً، متيناً يقودنا بالتأكيد إلى سيادة القانون وصيانة الدستور، وبالتالي إلى بناء دولة مدنية علمانية. فإلى أي مدى يمكننا (أفراداً ومؤسّسات ذات صلة) العمل على إعادة ترميم الإنسان السوري الذي قهرته الحرب وبعثرته تبعاتها في كل اتجاه ومنحدر؟!!

العدد 1105 - 01/5/2024