كُنْ كالشمس واضحاً.. فالحقائق لا تموت!

إيمان أحمد ونوس:

هناك من يقول: (إنك حينما تكتب فإنك تختار واحداً من أمرين:

إما أن تعبّر عن ذاتك الحقيقية، أو أن تردّد ما يعتقد الآخرون بصحته دون تمحيص. والفرق بين الخيارين كبير جداً).

لقد استوقفني هذا القول حقيقة لأنه يُعبّر بدقّة عن شخصيّة أي كاتب وفي أي مجال، لاسيما ونحن نرى ونُعايش ونلمس مدى ما وصلت إليه مصداقية الكلمة وتأثيرها في المجتمع، وكذلك ما وصل إليه حال الثقافة بشكل عام في بلداننا خاصة في العقد الأخير الذي شهد متغيّرات جذرية على مختلف المستويات الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والثقافية، بما أعاد تشكيل بنية الفرد والمجتمع برؤى مغايرة إلى حدٍّ كبير للبُنى السابقة التي سادت لسنين طوال.

لا شكّ أن الإنسان ما إن يبلغ سنَّ الرشد، ويمتلك ثقافة مُعيّنة تؤهّله لاتخاذ مواقف مُحدّدة في الحياة سواء الاجتماعية أو المهنية، فإنه بلا تردّد سيتّخذ الموقف الذي تمليه عليه هذه الثقافة أو المعتقدات التي يحملها، وهنا إمّا أن يكون جريئاً في تحديد موقفه وإعلان رأيه حتى لو كان مُغايراً للسائد من المعتقدات والرؤى والمعايير التي تفرضها القوانين السارية سواء كانت دينية أو اجتماعية أو سياسية.. الخ، يتحمّل وبكل شجاعة تبعات هذا الرأي حتى لو أخذه للمجهول الذي قد لا يعود منه. وإمّا أن يكون مُسايراً للواقع الراهن بما يفرضه، فيتخذ من المواقف والآراء ما يُعيد إنتاج الرؤى ذاتها التي تخدم المعتقدات السائدة دون أدنى تفكير بمدى صحّة ودقّة تلك المعتقدات والآراء ولا بجدوى مواقفه ومدى فاعليتها وتأثيرها على المحيط العام والخاص، ولا حتى على مستواه الشخصي، وهنا لا يكون أكثر من صدىً لا فاعلية له تُذكر في فضاءات الراهن، وربما ليس أكثر من سرابٍ ألبس أفكاره البالية ثوب التجديد والتنوير المخادع.

ما تقدّم أعلاه ينطبق بالتأكيد على كثير من الكتّاب والصحفيين والأدباء والسياسيين … الخ ممّن يُعنَون بالشأن العام وفي مختلف الميادين، فنجد من بين هؤلاء من يتبنّى آراء ومواقف مناقضة وربما رافضة بالمطلق للواقع السائد حتى لو كلّفه هذا أثماناً باهظة تصل حدّ فقدان الحرية، فقط لأنه لا يقبل ما يُناقض ثقافته وقناعاته ومبادئه التي تربّى عليها وحملها هوية مرافقة لهويته الشخصية، غير عابئ بالمكاسب المادية والمعنوية، همّه فقط إحداث تغيير جذري ينتقل بالإنسان والمجتمع إلى مستويات أفضل في مختلف مجالات الحياة، أو على الأقل يسعى لخلخلة البُنى القائمة كي يدفع الآخرين لإعمال العقل والتفكير بدل الخنوع وقبول الواقع كمسلّمات غير قابلة للتغيير. بالمقابل فإننا نجد كثيرين ممّن يتمتّعون بثقافة واسعة ويحملون مبادئ وقناعات تجديدية أو ربما ثورية وعلى مختلف الاتجاهات، لكنهم في الواقع المعيش يمارسون سلوكيات ويتخذون آراء ومواقف مناقضة لما يحملون من أفكار كي لا يخسروا محيطهم الاجتماعي أو السياسي أو سواه، ولأنهم أيضاً قد حملوا ما حملوه من مبادئ دون أن يتمكّنوا من فهمها أو الاقتناع بها، وإنما فقط ليظهروا بمظهر التحضّر والتمدّن والثقافة الزائفة، وهؤلاء لا شكّ أنهم حاضرون في كل مضمار بآرائهم التي تملأ فضاءات الإعلام بكل تنوّعاته، ويحصدون من الجوائز والثروة والمكاسب ما يحصدون دون أن يكون لهم صدىً أو تأثير بسيط يعمل على تطوير أنفسهم ومحيطهم.

لا شكّ أن الفروق ما بين الاتجاهين كبيرة وشاسعة من حيث إحداث تأثيرات ذات فاعلية على بنية الفرد والمجتمع من حيث الصدق والتمتّع بالجرأة في التعبير عند اعتناق مبادئ معيّنة مهما كانت جريئة ومُغايّرة، حين ينال الجريء الثقة والاحترام والتكريم، فيتمّ تعزيز تلك القيم في المجتمع. بينما وفي الحالة المُعاكسة فإن ما سيتم تعزيزه هو النفاق والشطارة أو الفهلوية القائمة على منافقة المتحكمين وأولي الأمر فقط لكسب المزيد من السطوة والحضور الهلامي الذي لا يمكن الإمساك به أو الركون إليه مهما بدا حاضراً وفاعلاً.

لذا، وانطلاقاً من الصدق مع الذات واحترامها، ووفاءً للأمانة التي نحملها في فكرنا ووعينا من أجل الارتقاء بالإنسان والمجتمع في كل زمان ومكان، لا يمكن إلاّ أن نكون واضحين كالشمس التي لا تبدّدها غيوم الراهن الهلامي الهزيل بقيمه السلبية والأنانية المُدمّرة، فالحقائق مهما طال الزمن لا بدّ لها من التّجلّي لأنها حيّة لا تموت.

العدد 1105 - 01/5/2024