الأُميّة وباء يُهدد كيان الفرد والمجتمع.. والمستقبل

إيمان أحمد ونوس:

لاشكّ أن الأميّة الأبجدية (القراءة والكتابة) من أخطر الأمراض الاجتماعية والمعرفية التي تنتشر في البلدان المُتخلّفة ومنها بلدنا الذي غزته اليوم وأكثر بكثير ممّا كانت عليه في السابق، اُميّة مُرعبة بسبب غزو همجي وحرب عبثية دمّرت كل حياة وجماد طيلة عشر سنوات وما زالت في بعض المناطق. فالأُميّة حقيقةً مرضٌ اجتماعي بكل مدلولات مفردة (مرض) لأنها بانتشارها تقضي على أيّة مناعة اجتماعية وأخلاقية واقتصادية وعلمية ومعرفية …الخ، فيغدو أفراد المجتمع أشباه كائنات حيّة تتوالد وتتكاثر وتبحث عن طعامها لتبقى على قيد الحياة لا أكثر. وبهذا تبقى مجتمعات غير فاعلة على مستوى خارطة الحضارة الإنسانية، بل هي مجتمعات مُستهلكة فقط لما تُنتجه المجتمعات الأكثر تحضّراً، ممّا يُبقيها مجتمعات تابعة وخانعة وفاقدة للسيطرة على مقدراتها وقراراتها ومصيرها.

إن الأُميّة الأبجدية ولا شكّ تقود إلى أُميّة قانونية ينتج عنها أُميّة وجهل في الحقوق والواجبات التي تنصُّ عليها الدساتير والقوانين الناظمة لحياة الأفراد والمجتمع والدولة معاً، ومن هنا يوجد حقٌ عام يحمي حقوق الدولة والمجتمع مثلما هناك قوانين تحمي حقوق الأفراد. وإذا ما أمعنّا النظر جيداً في الأُميّة الأبجدية من جهة وفي الأُميّة القانونية من جهة أخرى نجد بينهما علاقة تبادلية وترابطية، بمعنى أن كل واحدة منهما تقود إلى الأخرى بأشكال مختلفة. فمثلاً، حين يجهل الأهل وتتجاهل الدولة حق الطفل في التعليم، فسيكون لدينا أجيال متتالية من الأُميّين على مختلف المستويات، وبالتالي سنبقى ندور في حلقة مُفرغة ودوامة مُرعبة من التخلّف والجهل. وأيضاً، حين يجهل الأفراد ما عليهم من واجبات، وتتجاهل الدولة ما لهم من حقوق، فسنكون في مجتمع يعيش وفق شريعة الغاب الحق فيه للأقوى سلطةً وسيطرة وسطوة، وبالتالي ستتلاشى مُعظم القيم الأخلاقية والاجتماعية والدينية أمام تلك السطوة!

وإذا ما بقينا في حيّز الأُميّة الأبجدية، وإذا ما تمعنّا بواقع أطفال سورية اليوم وبعد سنوات الحرب، نجد أن مستقبل البلاد والعباد في خطر مُحدق لا محالة، لأن هناك ملايين الأطفال خارج مظلّة التعليم لأسباب بات الجميع يُدركها، في وقت تُعقد فيه المؤتمرات، وتُقام ورشات العمل والحملات (بشعارات برّاقة وأنيقة) الداعية جميعها لاحتواء كل الأطفال في المدارس مهما كانت أوضاعهم، غير أن واقع أولئك الأطفال والمشاهد التي نراها يومياً لبعضهم وهم يفترشون الأرصفة للنوم أو للتسوّل، وبعضهم الآخر يدخل ورشات الخياطة والحدادة وما شابهها من أعمال لا تصلح لأعمارهم وأجسادهم الغضّة، ولا تتوافق أخلاقياتها مع نقاء براءتهم، نجده واقعاً يُنبِئ بمستقبل مُظلم وخطير وجهل مقيم ما دام هناك تجاهل (وتطنيش) لأطفالنا الذين يرتعون كما يرتع المجتمع بتخلّف وفوضى قيمية وأخلاقية خطيرة، وبالتالي نجد أننا ذاهبون لا محالة إلى حتفنا وزوالنا عن خارطة المجتمعات الإنسانية، استناداً إلى مقولة أن أطفال اليوم هم رجال المستقبل، وأن مستقبل أيّ بلد منوط بحاضر أطفاله.

بالتأكيد لا يمكننا إنكار ما قامت وتقوم به منظمة اليونيسيف للطفولة بالتعاون مع وزارة التربية من وضع الخطط والبرامج الكفيلة بإعادة أعداد كبيرة من الأطفال المتسرّبين إلى مدارسهم وفق مناهج مُخصّصة لحالتهم، لكن النتائج لم ترقَ بعد للمأمول منها، فنسب التسرب المدرسي، وكذلك نسب الأميّة بين الأطفال إلى ارتفاع لم تشهده سورية سابقاً بسبب الإهمال وتجاهل المعنيين بالأمر لاحتياجات الأطفال ما بعد الحرب من رعاية نفسية وصحية وجسدية وتعليمية، ما سيؤدي إلى الغرق طويلاً في أميّة متعددة الاتجاهات تتسبّب في تخلّفهم وتمتّرس الفقر في حياتهم نتيجة هجرهم لمدارسهم والتحاقهم بالعمل باكراً دون خبرات ومؤهلات كافية بحكم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية لأسرهم. مثلما سيؤدي إلى انخفاض، وربما انعدام التطور المعرفي للطفل الذي يترك المدرسة ويتوجّه للعمل، إذ إن تطوره العلمي لا شكّ سيتأثّر ويؤدي إلى انخفاض قدراته على القراءة، الكتابة، الحساب، إضافة إلى انعدام الإبداع لديه، وفي هذا مؤشّر خطير على مدى التّخلّف العلمي والاجتماعي والثقافي الذي سيلحق بالمجتمع والمستقبل القادم لسورية كلّها.

 

العدد 1105 - 01/5/2024