ما بين الدستور والواقع.. حرب لقمة العيش أشدّ فظاعة  

إيمان أحمد ونوس:

تضمّنت مقدمة الدستور السوري لعام 2012 ما يشي بالكثير ممّا يستحقه السوريون حقيقةً، لاسيما بعد ما عانوه ولاقوه من أهوال وفظائع وفجائع الحرب وتبعاتها، فقد جاء فيها:

(يأتي إنجاز هذا الدستور تتويجاً لنضال الشعب على طريق الحرية والديمقراطية وتجسيداً حقيقياً للمكتسبات واستجابة للتحولات والمتغيّرات، ودليلاً ينظم مسيرة الدولة نحو المستقبل، وضابطاً لحركة مؤسساتها ومَصدراً لتشريعاتها، وذلك من خلال منظومة من المبادئ الأساسية تُكرّس الاستقلال والسيادة وحكم الشعب القائم على الانتخاب والتعددية السياسية والحزبية وحماية الوحدة الوطنية والتنوع الثقافي والحريات العامة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص والمواطنة وسيادة القانون، يكون فيها المجتمع والمواطن هدفاً وغاية يُكرَّس من أجلهما كل جهد وطني، ويُعدّ الحفاظ على كرامتهما مؤشراً لحضارة الوطن وهيبة الدولة).

لكن، وإذا ما قرأنا بعمق ما أوردته تلك المقدمة، يتضح الفارق الكبير والهوّة الشاسعة ما بينها وبين الواقع الذي نعيش، بما يؤكّد أن كل الحكومات المُتعاقبة انتهجت وما زالت سياسات اقتصادية واجتماعية بعيدة كل البعد عن روح الدستور وغاياته بقدر ما هي بعيدة عن هموم الشرائح الاجتماعية الأكثر فقراً واحتياجات التي تتزايد يوماً بعد يوم حتى وصلت نسب الفقر في سوريا إلى مستويات تخطّت النسب العالمية، بكثير لاسيما بعد اندلاع الحرب التي التهمت حقوق الإنسان كافّة مثلما التهمت كل مظاهر الحياة الكريمة لغالبية السوريين القابضين على الجمر والفقر والجوع فقط كي ينهضوا بأنفسهم وبسورية من مستنقع الحرب والفساد والمحسوبيات لبناء وطن تُشرق فيه شمس العدالة الاجتماعية القائمة على مبدأ المواطنة وسيادة القانون تحت مظلّة دستور ساوى بين الجميع في الحقوق والواجبات من جهة، وأكّد ضرورة احترام حق المواطن في الحياة والعمل والعيش الكريم من جهة أخرى، لأن بناء الإنسان والمجتمع والدولة لا يمكن أن يقوم بعيداً عن هذه الأسس، وقد جاء في الفقرة 2 من المادة 13 من الدستور ما يلي:

2- تهدف السياسة الاقتصادية للدولة إلى تلبية الحاجات الأساسية للمجتمع والأفراد عبر تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية للوصول إلى التنمية الشاملة والمتوازنة والمستدامة.

فإذا ما نظرنا إلى مختلف مناحي المعيشة نجد أن السياسات الحكومية لم تُحقّق في عملها الحدّ الأدنى من المساواة ما بين قلّة تتحكّم بمصير البلاد والعباد ومقدراتهما، وأكثرية ساحقة تنوء بأعبائها واحتياجاتها ومتطلباتها الأساسية للبقاء على قيد كرامة وحياة، ذلك أنها ما زالت حتى اليوم تعمل بنهج الفريق الاقتصادي الذي أسّس لما عُرِف باقتصاد السوق الاجتماعي، النهج الذي كان أحد أهم أسباب الأزمة التي عاشتها البلاد، فقد سادت المحسوبيات والفساد الذي ساهم في تضخّم نسب البطالة بكل ما تخلّفه من مآسٍ اجتماعية وأخلاقية خلخلت معها بنية الفرد والمجتمع، فسادت الدعارة والسرقة والتجارة غير الشرعية والتهريب والنهب والفوضى الشاملة التي غاب معها القانون وترك المواطن أعزلاً حتى من كرامته في سعيه الدؤوب والمستمر لتحصيل لقمة عيش لم تعد تليق حتى بالحيوانات بسبب غلاء الأسعار الذي فرضه التجّار والمحتكرون الفاسدون لكل الاحتياجات بما فيها منتجات زراعية أو صناعية غالبيتها محلية يُفترض أن تكون أقلّ تكلفة وسعراً من المستوردة، وذلك في ظلّ رعاية رسمية من الحكومات المتعاقبة التي سنّت التشريعات والقرارات التي تخدم أولئك المحتكرين والتجّار في تناقض واضح وصريح مع الدستور سواء لجهة تأمين الاحتياجات الأساسية للمواطن بما يحفظ له كرامته حين تخلّت عن حماية الفقراء من الجوع والعوز حتى وصلت نسبة الفقر في سورية إلى مستويات مرعبة التهمت في طريقها كرامة وإنسانية المواطن السوري الذي لم يعد يحمل اليوم من صفات وحقوق المواطنة أقلّها أو أدناها!

لا شكّ أننا اليوم أمام اختراق خطير وفظيع لأبسط حقوق الإنسان السوري الذي صبر وصمد في وجه حرب شعواء عبثية اغتالت كل مقوّمات الاستمرار لكنه لم ينجُ من جشع وطمع تُجّار الحرب وسماسرتها، أولئك الذين عملوا على المُتاجرة بقوت الناس لأقصى حدٍّ يمكن تخيّله، ولم تُثنِهم لا نداءات الجائعين، ولا استغاثات الموجوعين المقهورين الذين لم يبقَ أمامهم وهم يشهقون بالنفس الأخير إلاّ أن يصرخوا صرختهم الأخيرة قبل رحلة تيه لا يُعرف مداها، ذلك أن الوضع المعيشي المأساوي للناس في هبوط وتدنٍّ مستمر، في ظلّ فساد طغى على كل مفاصل الحياة والدولة معاً، فبات علنياً رافع الرأس غير هيّاب من حساب أو عقاب، حتى باتت نقطة الماء أو المازوت أو الغاز حلماً صعب المنال لغالبية السوريين، وكأنهم يعيشون في زمن الجاهلية الأولى من حيث انعدام كل الخدمات المطلوبة من ماء وكهرباء وتدفئة وعلاج وأدوية وووووو في ظلّ حرب اقتصادية يواجهونها هي أخطر بكثير من داعش وأخواتها، وفي ظلّ سياسة ليس فقط رفع الدعم عن المواد الأساسية، بل والاستمرار في رفع أسعارها يوماً بعد آخر، فلقد أورد موقع (الاقتصاد اليوم) بتاريخ 23 آب الحالي خبراً مفاده (أن لجنة التسعير في وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك تدرس بيانات التكلفة المقدمة من عشرات التجّار خلال اجتماع في الوزارة. ومن المواد التي يتمُّ دراسة بيانات التكلفة لها الشاي والأرز والحليب المُجفّف والتونا وألواح طاقة شمسية وأنفرترات وغيرها.. ومن المتوقع أن ترتفع أسعار المواد بعد إقرار الكلف الجديدة).

إن سياسة رفع الأسعار التي تنتهجها الحكومة إرضاءً للتجّار والمستوردين، يُقابلها إحجام غير مسبوق عن رفع الرواتب والأجور، وهذا بلا شكّ سيجعل المعادلة الاقتصادية غير متوازنة ما يُفضي إلى مزيد من الجوع والفقر وسط تجاهل رسمي وحكومي لكل ما سينتج عن تلك السياسات التي تركتنا وببساطة مُطلقة أمام حرب لقمة العيش والكرامة الأشدّ وقعاً ومرارة وفظاعة وشراسة على نفوس الناس من أهوال القذائف والدمار والموت!

فإلى متى ستبقى هذه الحكومات خارج السياق الزمني والموضوعي لما يكابده أولئك القابضون على الجمر كي تبقى سورية قوية بهم تمنحهم كرامة افتقدوها في كل بقاع الأرض!؟

العدد 1105 - 01/5/2024