شهر الآهات

إيناس ونوس:

تسير في الشارع تباغتك همهمات الناس فتخالهم يتحدّثون معك، لكن حظّك جيد، فتدرك بسرعة أنهم لا يرونك أساساً، بل يهيمون على وجوههم دونما هدف، هكذا تعتقد، ولأنك، كما يلقبك أصدقاؤك، حِشري،_ تحثُّ الخطا خلف بعض النماذج التي تصادفك بقصد معرفة ما يحدث معهم ولماذا يتكلمون مع أنفسهم وكأنهم كائنات هلامية لا يشعر بها أحد غيرك، تحسب عدد الخطوات بينك وبينهم التي اعتدت أن تجعلها مسافة أمان لك، ولهم أيضاً، وفي أعماقك يدفعك فضولك لاكتشاف المزيد والمزيد من حياة الناس.

أحد الرجال يستفسر عن أسعار الخضراوات، يتحسّس كل نوع وكأنه يودع ابناً مسافراً بغير رجعة، يتناهى لمسامعك صوته يحسب كم يجب عليه أن يدفع ثمناً لغداء يومين على الأقل، وتكلفة مونة المكدوس والمخلّل، يقف أمام أحد الباعة ضاحكاً:

_ يا ترى منموت إذا ما أكلنا مكدوس هي السنة؟!

توقفت أم وأبناؤها الثلاثة أمام محل ألبسة تزهو واجهته بألوان الألبسة المدرسية وأشكالها، فيما توقفت أنت وقد شدّتك لمراقبتهم كل حركة من حركاتهم، ها هي ذي الأم تقرأ الأسعار المُثبّتة على الواجهة وتُسارع بإخراج قلم وورقة من حقيبتها، تسجل ما تقرؤه، بينما ينشغل أطفالها باستمتاعٍ بمشاهدة المستلزمات المدرسية الأخرى، أحدهم يقول:

_ أريد هذه الحقيبة، فتردَّ عليه أخته:

هذه المقلمة كانت مع صديقتي في العام الماضي، بينما هذه الأقلام جديدة فإن اشترتها لي أمي سأكون أول من يستخدمها بين رفاقي.

تدير الأم ظهرها فتظنّها ستتابع سيرها تاركةً أطفالها مع رغباتهم، تقرأ تعابير وجهها المتجهّم، وتلمع في عينيها دمعةٌ تحاول كبتها، تفتح حقيبتها مُجدّداً، تُخرج ما بحوزتها من نقود، تعدّهم، فتنهمر الدمعة غير آبهةٍ بمن يراها، تبدو وكأنها انتبهت لوجود أولادها فجأة، فتمسح دمعتها، وتقول لهم، قاطعةً المجال للنقاش في أي احتمال للشراء:

_ ماما، هذه الأشياء كلها ليست من النوع الجيد، أعدكم بأني سأشتري لكم النوع الأفضل مجرّد أن وجدته في السوق، فلنذهب الآن إلى البيت!

تنتبه لمشادة كلامية بين أحد الباعة والحشد الغفير الذي يقف أمام بضاعته:

_ ولك يا عمي، متل ما إنتو عم تشكو من الأسعار، نحنا كمان عم نشكي، والله عم نبيعكن بربح بسيط كتير، بس شو طالع بإيدنا، بدنا نعيش ونطعمي هالولاد!!

الأصوات والكلمات ذاتها، الوجوه المتجهّمة ذاتها تراها كل يوم أثناء مسيرك الذي لم تكلَّ منه، ولم تيأس أن تجد من يعطيك الصورة المعاكسة، لكنك في كل مرة ترى الألم يعتصر قلوب الأهل لعدم قدرتهم على تلبية رغبات أولادهم واحتياجاتهم، ومع كل خطوة تسمع عمليات الجمع والطرح والنتيجة السالبة الدائمة.

نعم، لن يموت الناس إن لم يتمكنوا من ملء بيوتهم بالمونة التي اعتادوا عليها، لكنهم حتماً سيموتون إن لم يتمكنوا من الحصول على وجبة واحدة في اليوم!!

نعم، سيسكت الأولاد عن تعداد متطلباتهم ممتعضين، لكن حرقة قلب الأهل لن تهدأ، وأجفانهم لن تعرف النوم إن لم يستطيعوا تأمين أبسط المستلزمات المدرسية، كي لا يضعوا أولادهم الذين يفقدون متعة الحلم أمام رفاقهم بوضعٍ حرج.

بالتأكيد الحياة ستستمر، لكن بأي شكلٍ ستستمر ما دام برد الشتاء قادماً لا محالة، والمصاريف تزداد ساعةً بعد أخرى، والأسعار تسبقها بسرعةٍ أكبر؟!

تبقى هذه الأسئلة صديقتك الوحيدة بعد انتهاء كل جولةٍ من جولات حِشريتك، ترافقها في كل مرة آهٌ جديدةٌ تخرج من الأعماق لو هُيّئ لها لأحرقت الأرض بمن عليها.

العدد 1104 - 24/4/2024