أيلول.. الأرواح صفراء أيضاً

حسين خليفة:

هو همٌّ قديم يلبس ربَّ العائلة، بل العائلة كلها منذ القديم.

في القرى الطينية كان أيلول موسم إعادة تطيين السطوح وترميم ما يجب ترميمه من آثار الشتاء الفائت، وإكمال درس القمح المحصود وفرزه، أو القش الملموم لتخزين مؤونة الشتاء من القمح للعائلة، ومن التبن والشعير للدواب والأنعام، إضافة إلى إعداد ربّ البندورة فتصبح السطوح حمراء، وتيبيس البامياء والباذنجان وغيرها من خضار الصيف، مع إعداد القمح المسلوق والمُقشّر والبرغل وغيره من مشتقات القمح لتكون زاد الشتاء القادم، وجمع الحطب ونقل الجلّة من أماكن تجميعها إلى المنزل تمهيداً لحرقها في مدافئ شتاء لا يرحم.

كل هذا كان يحتاج إلى جهود كبيرة ومضنية، لكن في ظلّ اقتصاد زراعي فيه شبه اكتفاء ذاتي، كان موضوع العبء المادي عادياً أو محمولاً، يبقى العبء الجسدي الذي يتعاون فيه أبناء العائلة وأبناء القرية في بعض الأعمال التي تحتاج إلى جهد جماعي.

الآن، في زمن انتقال معظم الناس إلى أطراف المدن، بعد أن سُدَّت سبل العيش أمام أبناء القرى بسبب السياسات المُتّبعة في تهميش الزراعة والرعي والعمل بشكل عام، بدل دعمه وتشجيعه، والجفاف العام الذي ضرب المنطقة والعالم. وبعد أن صار العمل المأجور خصوصاً عند الدولة كأكبر ربّ عمل في بلاد الشعارات والتأميم والاشتراكية، ووعود الفردوس الأرضي الخائبة، صار كل شيء في بداية الخريف مصدر رعب وقلق لدى الآباء والعائلات بعامة. فالمونة التي لا بدّ من شراء موادها من الأسواق، من باذنجان وبندورة وجوز وفليفلة وبامياء وتوت شامي وغيرها، تحتاج إلى موازنة خاصة وكبيرة، ثم تأتي محروقات الشتاء التي كانت مقتصرة سابقاً على المازوت وأصبحت الآن مُضافاً إليها خيارات أخرى بعد استحالة الحصول على المازوت أحياناً، مثل الحطب الذي أصبح بغلاء المازوت إضافة إلى أن غاباتنا كادت أن تنقرض، و(التمز) المستخلص من بقايا عصر الزيتون.

لكن في ظروف الحرب ونزوح آلاف العائلات واضطرارها الى السكن في مراكز الإيواء، أو الاستئجار في أحياء شعبية مع غياب المعيل لأسباب شتّى، أصبح تأمين أي مواد تدفئة أقرب إلى الاستحالة، ممّا دفع الناس إلى استخدام الألبسة البالية وأكياس النايلون والبلاستيك في التدفئة، وصرنا نشمُّ روائح حرق هذه الأشياء في شوارع المدن والقرى، وهي روائح واخزة ومميتة، فما بالك بمن يجلس في مكان مغلق ويشمّ هذه الروائح؟!

أي بلد في العالم يخصّص لكل عائلة خمسين لتراً من المازوت خلال عام، ولا يحصل عليها كثيرون من مستحقيها؟

هنا لا بدّ من شراء المازوت بالسعر الحر من السوق السوداء، وهو متوفر بالكميات التي تريدها لكن بأسعار خيالية؟! إذاً ليس هناك نقص في الوقود كما يردّد الإعلام الرسمي والمسؤولون عن النفط والتموين، بل هناك نهب منظّم في قطاع المحروقات كما في غيره من القطاعات.

وفي ظلّ الدخول الصفرية للعاملين في الدولة (ما يعادل وسطياً عشرين دولار شهرياً) يصبح الحصول على المحروقات من الاستحالة، ويلجأ كثيرون إلى التلفع بالبطانيات في ليالي الشتاء الباردة والطويلة.

أليس سجناً كبيراً وطنٌ لا تجد فيه ما يدفئك في الشتاء سوى أن تدفن نفسك أنت وعائلتك تحت اللحف والبطانيات طوال صحوك ونومك؟! ولا نتحدث هنا عن الحريات سواء كانت حرية الرأي أو السفر أو العمل، وواجب الدولة في تأمينها وحمايتها، بل عن أبسط الحقوق: السكن، المأكل، الملبس، ما يميّز الإنسان عن الدواب والمواشي.

وحقيقة نقولها بكل أسف، فإن من كان لديه قطيع مواشٍ يقدّم لها الغذاء والدواء والمسكن والتدفئة، فيما لا تقدم لنا دولتنا أيّاً من هذه المستلزمات الأساسية للعيش، فهل يعتبرنا أولو الأمر أقلُّ شاناً منها؟!

(الميم) الثالثة، بعد المونة والمازوت، التي تداهم المواطن في أول الخريف هي المدارس، وهي همٌّ كبير في ظلّ الارتفاعات المتتالية لأسعار القرطاسية والألبسة والمواصلات والمواد الغذائية وغيرها، وتدهور وضع التعليم الرسمي المتهالك، ما يجبر بعض الأهالي على تسجيل أولادهم في دورات تقوية لملء الفراغ الحاصل في التعليم الحكومي، بعد أن أصبحت المدارس الخاصة حلماً مستحيلاً للمواطن العادي، وهذا ما دفع بالكثير من العائلات للإحجام عن إكمال تعليم أبنائهم ودفعهم إلى سوق العمل في سنٍّ مبكّرة، ممّا جعل نسب الأمية ترتفع ارتفاعاً مهولاً، الأمر الذي ينذر بكارثة تعليمية واجتماعية تضاف إلى كوارثنا الكثيرة.

في وجه الميمات الثلاث، بل عشرات الميمات يقف السوري عاجزاً كاظماً غيظه، الأرض باردة وقاسية والسماء بعيدة، فأين يذهب السوري بحاله وعياله؟!

أين يذهب يا صاحب الزمان؟!

العدد 1107 - 22/5/2024