أساطيرُ الأوّلين

عبد الرزاق دحنون:

كانت الأساطيرُ من أوائل القيم المعرفيّة التي أبدعها البشرُ عند العتبةِ الأولى في سلّم رقيّهم الحضاريّ، ففي المجتمع البدائيّ كانت هذهِ الأساطيرُ هي الوسيلةَ الأساسيّةَ لفهم العالم الغامض الذي يعيشُ فيه البشر، فهي تعدُّ أقدمَ شكلٍ من أشكالِ إدراكِ هذا التنوّع الكبير في مظاهر الطبيعة المحيطة بالإنسان من كلّ جانب. وقد زرع الوعي البشريّ الطبيعة بمختلِف الأنفس في مرحلةٍ مبكرةٍ من تطوّر المجتمع، فقد تلقَّت كلُّ ظاهرةٍ من ظواهر الطبيعة الملحوظة نفساً معيّنة. ولم تكن قد انعكست في هذهِ الأنفس صلاتُ واقعِ حياةِ الناس وعلاقاتهم، وإن كانت صورتُها فيها الكثيرُ من الخيال؛ لأنّ المجتمع البدائيّ لم يعرف علاقات السيطرة والتبعيّة، لذلك لم تجد مثلُ هذهِ العلاقات مكاناً لها في عالم القوى الفوقيّة الذي صنعته المخيّلة البشريّة. وقد اعتقد أجدادُنا الأوائلُ بأنَّ النفسَ قادرةٌ على التجسّد، فالعالم في نظرهم مسكونٌ بالأنفس الطيبة، والأنفس الشريرة التي تؤثّر على سلوكهم تأثيراً كبيراً. فإنّ الحجر أو الشجرة أو الجبل، فضلاً عن أنواع الحيوان، لها نفسٌ ويمكنها أن تؤثّر في حياتهم اليوميّة. وهنا لا بدَّ لي من الإشارة إلى أنّ كلمة (نفس) وردت عند أهل مملكة (إبلا) في موقع (تل مرديخ) في محافظة إدلب في الشمال الغربي من سوريّة في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد بلفظ (نوبوشتوم) وهي أصلُ كلمةِ نفس العربيّة، التي من معانيها: فرد، أو شخص، ومنها تسميةُ دائرة الأحوال الشخصيّة: (دائرة النفوس).

وما إن هلَّت تباشير المجتمع المستقرّ على ضفاف الأنهار والسهول الخصبة القابلة للزراعة، وتهجين الحيوان، وبناء المساكن من الطوب المشوي بأشعة الشمس، في مختلف أرجاء العالم، حتّى أخذت تظهر أساطيرُ أكثرَ تعقيداً، وتتحوّل هذهِ إلى رواياتٍ وحكاياتٍ متسقةٍ، يرتبط بعضها ببعض وتؤلف في النهاية عالماً من الأساطير الواسع الطيف. وقد أظهرت الدراساتُ المقارنة لقصص مختلف الشعوب عن وجود تلاقحٍ فيما بينها، يعود في أصله إلى مفهوم الاستعارة، فمثلما يستعيرُ القمرُ نورَ الشمس ليعكسَهُ ضياءً ساحراً على الأرض، استعارت الشعوبُ الأساطيرَ من بعضها، بعد أن تكون الأساطيرُ المقتبسةُ قد أخذت مكانها المدرك في حياة الشعب الذي اقتبسها، وفي رؤاه، بما يتلاءم وظروفَ حياتِهِ ومستوى التطوّر الذي حقّقه.

وقد تشكّلت المقدّماتُ الرئيسةُ للفكر الأسطوريّ؛ لأنّ الإنسان البدائيّ لم يكن قد أصبح قادراً على فصل ذاته عن الوسط المحيط، الطبيعيّ والاجتماعيّ، فقد أضفى الإنسانُ صفاته الذاتيّة على مواضيع الطبيعة، ونسب إليها الحياة والأحاسيس البشريّة. وما نشهده اليوم من دعوة بعض الجماعات البشريّة لترك المدن الكبرى التي تسحق أحلام البشر، والعودة إلى حياة الطبيعة البكر ليس إلا انعكاساً لتوق النفس الإنسانيّة إلى عصورها البدائيّة. والتعبير عن قوى الفضاء الكونيّ وصفاته وأجزائه على أنّها شخصيّاتٌ محدّدة، محسوسة، حيَّة، هو الذي خلق الفكر الأسطوريّ الغريب المبتكر، إذ غالباً ما تمثّل الفضاء في الأساطير عملاقاً حيّاً يمكن أن يتألّف العالم من أجزائه، ويصوّر الأجداد الكائنات الحيَّة على أنّها ذات طبيعةٍ ثنائيّةٍ على شكل حيوانٍ وعلى شكل بشر، وهذا في اعتقادي ما يفسّر أحد أسرار التماثيل المزدوجة التركيب المكتشفة في حقبة ممالك المدن الأولى في وادي الرافدين والهلال الخصيب.

يُدرك الوعي البدائيّ محتوى الأسطورة على أنّه حقيقةٌ واقعيّة؛ لأنّها إدراكٌ حقيقيٌّ لواقعٍ معطًى في صورة حاضرٍ مستمرّ. إنّ عدم القدرة على إقامة حدٍّ فاصلٍ بين الطبيعيّ والخارق قد حوّل الفكر الأسطوريّ إلى نظامٍ رمزيٍّ فريد، جرى إدراك العالم من خلاله، ويمكن أن تستمرّ بعض سمات الفكر الأسطوريّ حيَّةً في وعي الناس إلى جانب عناصر المعارف الفلسفيّة والعلميّة الأخرى. ففي أيامنا هذه ما زالت الأساطير الدينيّة تُستخدم على نطاقٍ واسعٍ في الموروث الشعبي والوعي الاجتماعيّ في البيئات الحضريّة والريفيّة على حدٍّ سواء، ويرى كثيرٌ من العلماء الذين درسوا الأساطير دراسةً منهجيّةً أن الانقسام الاجتماعي، وما رافقه من انقسام العمل الذهني عن العمل العضلي، أدّيا إلى انفصال الطبيعيّ عن فوق الطبيعي، ومن ثَمَّ بروز الأساطير عالماً خاصّاً يقف فوق العالم الطبيعي ويسيطر عليه، ومن هنا تشكّلت فكرةُ الدين في الوعي البشري؛ غيرَ أنّ الدين ليس مجرّد حقائقَ فريدةٍ لفهم العالم فهماً أسطوريّاً، ولو كان الأمرُ كذلك لانهار التصوّر الدينيّ عن العالم منذ زمنٍ طويل؛ إذ لا يخفى أنّه ليس من الصعب إثبات عدم وجود أيّة أسسٍ مجرّبةٍ لدى مثل هذا التصوّر عن العالم، ولأمكن من ثَمَّ استبداله بصورةٍ علميّةٍ واقعيّةٍ عنه. لكن الأمر يكمن في أنّه تنبثق عن التصوّر الدينيّ عن العالم، ومن الإيمان بأنّ رباً خلق هذا العالم، ويتحكّم في شؤونه، صغيرها وكبيرها، نقول تنبثق عن هذا كلّه صلةٌ عاطفيّةٌ معيّنةٌ تربطُ المؤمن بخالقه، تنبثق عنه آمالٌ بشريّة، تطلّعات، أوهام، أشواق، رغبات ومساعي، وهذا الجمع من الأحاسيس والعواطف التي خلقها الدين في النفس البشريّة، هي التي تجعلُ منه قوّةً حيويّةً مهيمنة.

عندما تمَّ التلاقحُ بين الأساطير والدين في الوعي البشريّ نتج المقدّس، والمقدّس نمطٌ من أنماط علاقة البشر بأصل الأشياء، يغيبُ فيها البشرُ ويظهرُ مكانهم أقران لهم، أي كائنات خياليّة خارقة؛ إذ لا يمكن للمقدّس أن يظهر إلا إذا غاب شيء ما من الإنسان، والإنسان الذي يغيب هو الإنسانُ شريك الطبيعة في تكوين نفسه، الإنسان الذي شكّل أسلوب وجوده الاجتماعيّ وكيانه الاجتماعيّ؛ فطبيعةُ البشر لا تجعلهم يعيشون في مجتمعٍ وحسب – كبقيّة الحيوانات الاجتماعية – بل تجعلهم ينتجون مجتمعاً ليتمكّنوا من العيش. وبازدواجيّة البشر وابتداعهم لأقران خياليين غير موجودين، وأقوى من البشر الحقيقيين يجعلهم يبدون لا كفاعلين وخالقين جزئيّاً لأنفسهم إنما كمنفعلين؛ فازدواجيّة البشر تترافق مع تشويهٍ وحجبٍ للواقع وقلبٍ للعلاقات السببيّة. لكن حين يغيب الإنسان الحقيقيّ عن الأصول، حين يزدوج بالفكر مبتدعاً كائنات خارقة أقوى من الإنسان، ينشطر الواقع الإنساني، ويصبح البشر الحقيقيّون غرباء جزئيّاً عن أنفسهم، يكون ذلك بفعل آليّة لا تتعلّق بالفكر وحده. فابتداعُ هذه الكائنات، وإنتاج حكايات تروي مغامراتهم، وإعداد طقوس تحتفي بهم وتعيد إحياءهم بين البشر، كلّ ذلك يقتضي عملاً للفكر، عملاً واعياً يحرّك في الوقت ذاته بُنى لا واعية في الذهن. ويكمن الأمر الجوهريّ في أنّ الأساطير هي تفسيرٌ لأصل الأشياء يعطي شرعيةً لنظام الكون والمجتمع بإحلال بشرٍ خياليين لم يدجنوا النبات والحيوان، ولم يبتكروا الأدوات والأسلحة، ولم يخترعوا اللغة، بل تلقوا هذه المنافع من أيدي الآلهة أو الأبطال المؤسّسين، محلّ بشر حقيقيين قاموا بكل ذلك.

انظر جيّداً في هذه الرواية التي جاءت في مقدّمة كتاب (أخبار الزمان) من تأليف أبو الحسن عليّ بن الحسين بن عليّ بن المسعودي المتوفى في حدود عام 346 من الهجرة النبويّة: عن ابن عباس أنّ رسول الله قال: (أوّل ما خلق الله القلم خلقه من نور طوله خمسمئة عام، وخلق اللوح المحفوظ من درة بيضاء، حافاته من ياقوت أحمر، عرضه ما بين الأرض والسماء، خلقهما قبل أن يخلق الخلق والسماوات والأرض. فقال للقلم اكتب، قال وما أكتب؟ قال اكتب علمي في خلقي إلى يوم القيامة، فجرى القلم بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة، وما هو في علم الله، ينظر الله تعالى في ذلك اللوح كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة، فيخلق ويرزق ويحيي ويميت، ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وسُئل رسول الله: أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق والأرض والسماء؟ قال: كان في عماء ما فوقه ماء وما تحته هواء، ثمَّ خلق عرشه على الماء).

يمكن القول بثقة كبيرة إن الأساطير تطوير وحيد الطرف، مبالغ فيه؛ تكبير؛ تضخيم لإحدى الميزات الصغيرة في المعرفة، لأحد جوانبها، لأحد وجوهها، إلى مطلق منفصل عن المادة، عن الطبيعة، مؤلّه. ومن المؤكد أن الأساطير لها جذورٌ معرفيّةٌ ولها تربة؛ إنّها زهرةٌ غيرُ ملقّحة، ومن ثَمَّ لا تطرح ثمرة، ذلك لا جدل فيه، لكنّها نبتت على شجرةٍ حيَّةٍ هي شجرةُ المعرفةِ الإنسانيّة، الكليّة الجبروت.

 

العدد 1104 - 24/4/2024