خاطرة حول الجامعة

يونس صالح:

لقد ظلت الجامعة مرتبطة بالتطلع إلى التقدم، خلاصاً من التخلف وإلى حرية الفكر تمرداً على التسلط، وإلى تشجيع الاجتهاد الذي يقوم على حق الاختلاف ويتدعم به.. وكان الارتباط بين معنى الجامعة ومعنى الاستغلال يسقط كلا المعنيين على الآخر، بما يؤكد أن التبعية هي الوجه الآخر من الاتباع، والعبودية هي البعد الذي يكمل التقليد ويكتمل به، في مقابل الابتداع الذي هو شكل من أشكال التحرر، ووجه من أوجه الوعي بالهوية، في حضورها الخلاق الذي يؤسس نفسه بالتسامح والحوار والانفتاح على الآخر، والتطلع إلى ميراث الماضي بوصفه نقطة للبداية وليس نقطة للنهاية.

وكانت الجامعة في ذلك كله هي زمن العقل الذي استبدله التطور الثقافي الاجتماعي عندنا بالنقل، وساحة السؤال الذي أحلّه تقدم العلم محلّ التسليم، والشكّ الذي أنزلته معرفة العصر المتصاعدة مكان التصديق، والعلم الذي نجح في إزاحة الخرافة، وحق الاختلاف الذي أبطل معنى الإجماع، وروح المبادرة الفردية التي قضت على ضرورة لزوم الجماعة وعدم الخروج عليها، وكما ارتبطت الجامعة في تاريخها بتدمير سطوة التعاليم المدرسية والانصياع للقواعد الكلاسيكية الصارمة، برغم كل ما قيل عنها من أنها مؤسسات محافظة بحكم حرصها على تقاليدها، فإن الجامعة عندنا ارتبطت بالاستنارة، والحداثة والتحديث، فبدأت فكرة في أذهان الطليعة التي عملت على الانتقال بالمجتمع من التخلف إلى التقدم، ومن الضرورة إلى الحرية، ومن حقب الإظلام إلى عهد الاستنارة، وعندما تجسدت هذه الجامعة واقعاً على أيدي هذه الطليعة تحولت إلى سلاح من أسلحة مواجهة كل ما يعوق أحلام التقدم والحرية والاستنارة.

ولم يكن من قبيل المصادفة أن حلم الاستقلال السياسي للفرد وللشعب على مستوى التحرر من التبعية، كان الوجه الآخر من حلم الاستقلال الفكري، على مستوى التحرر من الاتباع، وهو التلازم الذي فرض على الجامعة، منذ إنشائها، مواجهة التسلط السياسي والقمع الاجتماعي، ومحاربة التخلف والتعصب والجهالة والخرافة، بالقدر نفسه الذي كان عليها أن تحارب نقائصها التعليمية في مجالات التعليم والمثاقفة.

لقد كان إنشاء الجامعة نتيجة لدعوة الطليعة المستنيرة عندنا وجهودها لتحقيق أحلامها بمجتمع مدني جديد، ورغبة عميقة في أن تكون تلك الجامعة الوليدة مستقلة عن السلطة الدينية والسلطة السياسية كي تستطيع أن تقوم بدورها التنويري والتطويري.. إلا أن المصاعب والتحديات التي وقفت في وجه تحقيق هذه الرغبة كانت كبيرة، مما أضعف دورها المجتمعي كما أراداتها الطليعة المؤسسة. إلا أن الحلم بأن تكون الجامعة مؤسسة حرة من مؤسسات الاستنارة لا دين لها سوى العلم، ولا سياسة فيها إلا سياسة العلم الخالص المبرّأ من أجواء السياسة والاعتقادات الذاتية والمصالح الحزبية سيبقى قائماً، فالحضور الخالص لهذا النوع من العلم كان هو معنى الجامعة في أذهان من حلموا بها.

العدد 1105 - 01/5/2024