التسامح.. هذا المصطلح المربك والمحير!

يونس صالح:

التسامح مصطلح مربك ومحير، ولكن متابعة رحلته في الثقافة والسياسة والتاريخ قد تخفّف من الحيرة.

التسامح مصطلح تردد بشكل لافت للنظر في الأدبيات السياسية خلال السنوات الأخيرة، وقد كثر استخدامه في مجال الحديث عن الدينية بشكل خاص، وربما استخدم على استحياء في الحديث عن (الحوار) والتعامل مع الآخر، والقبول بالتعددية السياسية والثقافية والاجتماعية أيضاً.

والتسامح في اللغة يعني أن تتغاضى عن خطأ ارتكبه آخر، أو التساهل في حق، أو الصبر على إساءة ما، بيد أن المصطلح اتخذ أبعاداً غير الأبعاد اللغوية، وصار يعبر عن موقف ثقافي/ اجتماعي، وفكرة (التسامح) نفسها تبدو نابعة من ثقافة (غير متسامحة) في جوهرها.. فكيف؟

تبدو المفارقة واضحة من حيث أن هذا المصطلح ينطوي بالضرورة على مفهوم يقول إن هناك (خطأ) أو (خطيئة) ينبغي التسامح إزاءها.. وهو ما يشي بأن من ينادون بـ(التسامح) ينطلقون من موقف منحاز يرى أصحابه أنهم على حق، وأن (الآخر) على باطل، ولكن الضرورة تفرض عليهم التسامح إزاء هذا الآخر، لسبب أو لآخر، ويقودنا هذا إلى التفكير في أصول هذا المصطلح، ومنابعه وأبعاده الثقافية والنفسية والاجتماعية، إذ إن المصطلح ليس مجرد كلمة تحمل معنى ما، وإنما هو تعبير عن موقف ثقافي / اجتماعي يرى الذات والآخر من منظور استعلائي، وهو ما يشي بأصول ثقافية- اجتماعية غير متسامحة أصلاً.

إن العلاقة بين (الأنا) و(الآخر) يجب أن تقوم على أساس أخوة الجنس البشري كله من ناحية، وعلى أساس حق الآخر في الوجود والاختلاف من ناحية أخرى، وتكمن المفارقة هنا، في أن الحضارة الغربية التي أفرزت مصطلح (التسامح) ليست حضارة متسامحة إزاء الآخر بأي حال من الأحوال.

فهي حضارة تقوم على فكرة استعلائية مستمدة دينياً من فكرة (الشعب المختار) التي ورثتها المسيحية الغربية (بشقيها الأوربي والأمريكي) عن العهد القديم في الكتاب المقدس.. على أي حال، فإن الحضارة الغربية قد صاغت مفهوم (التسامح) لحل مشكلات ثقافية – اجتماعية أوربية في أواخر العصور الوسطى وفي بداية عصر النهضة، بعد أن تفاقمت أزمة الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية نتيجة الصراع بين الكنيسة التي كانت تتحكم في كل شيء، والذين تمردوا على مفاهيمها الضيقة في مختلف الجوانب العلمية والثقافية والاجتماعية، وقد أدى تزايد نجاح معارضي الكنيسة، وفشل سياسة محاكم التفتيش، إلى تراجع الكنيسة ورفع شعار (التسامح) لحل هذه المشكلات.

ثم خرج مفهوم (التسامح) من هذا الجلد الديني الضيق إلى رحابة الحوار الثقافي والسياسي الذي نجم عن التطورات التاريخية الموضوعية التي جرت على بلدان أوربا، وصار (التسامح) من شعارات الحياة الفكرية في بعض البلاد، ولم يعد ممارسة مقبولة بشكل عام سوى في القرن العشرين، بيد أن أوربا مارست (التسامح) داخل بعض بلدانها فقط، ولم تمارسه تجاه (الآخر) غير الأوربي، وكذلك فعلت الولايات المتحدة منذ انغماسها في الشؤون الدولية، وخصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية.

وأخيراً، مع بداية التسعينيات من القرن العشرين، صار الشعار مطروحاً بقوة، بعدما أثيرت مسألة (صدام الحضارات) ومسألة (حوار الحضارات) التي تشكل القطب المواجه لها. لقد كانت فكرة (صدام الحضارات) التي أثارها صمويل هنتجتون في بداية تسعينيات القرن الماضي، موجهة ضد فكرة (التسامح) تماماً، وقد عبّر فوكوياما عن ذلك التعصب و(عدم) التسامح) عندما أعلن فكرته عن نهاية التاريخ، لأن الرأسمالية انتصرت على الشيوعية ويجب أن تسود العالم.

وقد أريقت كميات هائلة من الحبر، وعقدت ندوات وحوارات وجرت مناظرات ومقابلات في شتى وسائل الإعلام العربية حول موضوعات (الحوار) و(الآخر) و(التسامح).. وما إلى ذلك في السنوات الأخيرة، وكانت كلها تستجدي الحوار والتسامح والفهم من الغرب عامة ومن الولايات المتحدة على نحو خاص، وسادت أجهزة الإعلام الحكومية نغمة ساذجة تدعو إلى (التسامح) والحوار مع الغرب الغاضب المتربص.

بيد أن هناك مفارقة تدعو إلى الأسى بشأن التسامح والحوار الذي تسعى إليه (الحكومات)، إذ إن هذه الحكومات نفسها في البلدان العربية لا (تتسامح) على الإطلاق إزاء القوى السياسية الأخرى، داخل بلادها. كما أنها تنكر ببساطة وجود (الآخر) سواء على المستوى السياسي أو الثقافي، ويمكن تفسير ذلك بطبيعة الحال من خلال الحقائق التي تحكم علاقات هذه الحكومات بشعوبها من ناحية، وعلاقاتها بالغرب من ناحية أخرى.. فهي علاقة استبداد وتسلط في الداخل، وعلاقة تبعية واستجداء مع الخارج.

ومن خلال ما عُرض نجد أن معنى مصطلح (التسامح) كان عرضة لتقلبات عدة ناتجة عن السياقات التي جاء فيها، وهكذا نجد أنفسنا أمام مصطلح يصعب التعامل معه من منظور أحادي، فهو ليس دالاً على المفاهيم الدينية وحدها، وليس مقصوراً على الممارسة السياسية دون غيرها، وليس محصوراً في نطاق الحوار الثقافي أو التفاعل الاجتماعي فقط، إنه مصطلح محير ومربك شأنه شأن العلاقات الإنسانية، ولسنا هنا بصدد البحث عن تعريف جامع له، وإنما رصد ما يحمله هذا المصطلح من دلالات ومفاهيم. إن هذا الموقف يستمد شرعيته من حقيقتين:

أولاهما: أنه من العبث إضاعة الجهد لنحت تعريف جامع لمصطلح كانت نشأته الأصلية في سياق ثقافة مختلفة وظروف تاريخية لم تمر بها كل المجتمعات، وتم نقله إلى مناطق ثقافة مغايرة حكمتها ظروف تاريخية مختلفة.. وثانيتهما أن محاولة فهم السياق الثقافي الذي يستخدم فيه المصطلح، يمكن أن يؤدي بنا إلى فهم المزيد من حقائق العلاقات بين المناطق الثقافية المختلفة بشكل تاريخي موضوعي، دون الانزلاق في مهاوي الانحيازات المسبقة.

 

العدد 1105 - 01/5/2024