ذكاؤنا العاطفي يفجّر طاقاتنا

إيناس ونوس:

يتميّز الإنسان بامتلاكه جوانب متعدّدة في شخصيته، وبقدرته على استخدام هذه الجوانب وتجييرها في مختلف مناحي الحياة وعلى مدار سنوات عمره الطويل، وأحد أهم هذه الجوانب هي العاطفة والمشاعر الإنسانية التي هي بدورها متناقضة، فإن استخرج ما بداخله من عواطف نبيلة سما وارتقى وبرز أجمل ما لديه، وإن اقتصرت حياته على إخراج النقيض من المشاعر لوصل هو قبل أيّ أحد غيره إلى الدرك الأسفل، ولن يرى إلاّ ما هو قبيح ومظلم.

وفي الوقت الذي يمتلك فيه جميع بني البشر تلك الأحاسيس التي تظهر وتتبلور عند كل موقف يخضعون له، فإنهم جميعاً بحاجة إلى إشباع تلك الأحاسيس كي تطفو على السطح وتظهر عبر أساليب تعاملهم مع المحيط المتنوع هو الآخر، فطرق تواصلنا مع الآخرين وآليات تعاطينا مع مختلف جوانب الحياة وإشكالياتها بحاجة إلى إعمال مشترك ما بين العقل والعاطفة، أي ألّا نسمح لأحدهما أن يكون هو المحرك الوحيد لنا، لأن التوازن ضرورة ملحّة، واعتماد أحدهما دون الآخر يؤدي بنا إلى المزيد من المشاكل، فإن كان العقل والمنطق فقط هو معيارنا ابتعدنا عن الإحساس بأنفسنا وبالآخرين أيضاً، وصرنا نتعامل مع كل شيء وكأنه معادلة رياضية بحتة إن غاب أحد عناصرها فشلت قبل أن تصل إلى النتيجة الصحيحة، كذلك الأمر مع العواطف، إن اعتمدناها أساساً وحيداً في تعاملنا، سواء مع أنفسنا أو مع الآخرين، أوصلتنا إلى نتائج غير مرغوبة وأبعدتنا عن التفكير الصحيح، وزجّت بنا غالب الأمر في متاهات نحن بغنى عنها ستزيد ربما من إحساسنا بالغبن والقسوة ووحشية العالم من حولنا.

وعلى هذا، فإن الإشباع العاطفي الذي يحتاجه الإنسان في مختلف مراحل عمره يقوم على الاستخدام الذكي للعاطفة بالتوازي مع العقل والمنطق، فالطفل الذي يكبر شيئاً فشيئاً يحتاج إلى أن يدرك أنه محبوب بالرغم من كل السلوكيات السلبية التي قد يقوم بها دون إدراك منه بعواقبها، فإن أشبعنا حاجته الشخصية للحب وساعدناه على أن يفهم أننا نحبه كشخص، لكننا نرفض سلوكه السيئ، فسنصل معه إلى أن يثق بنفسه ويتجاوز تلك السلوكيات، ومن ثم سيعتمد منهجاً مختلفاً عن غيره من أقرانه في تعاطيه مع مختلف المواقف التي سيتعرّض لها، كما أنه بحاجة إلى أن يدرك أهمية وجودنا بجانبه انطلاقاً من حبنا له، وأنه ليس وحيداً في مواجهة الصعوبات التي قد يُصادفها مع إمكانية تعليمه كيفية حل تلك الصعوبات، فإن اعتمدنا هذا الميزان في تربيتنا لأطفالنا استطعنا أن نُشكّل منهم شخصيات أكثر توازناً وأقلّ عرضة للأزمات النفسية في المستقبل، والعكس صحيح تماماً، فإن انتهجنا أسلوب تربية قائماً على الانتقام من كل ما مررنا به في حياتنا، وصبّه على هذا الطفل، فلن نصل إلاّ إلى نسخة أخرى من شخصيتنا التي تعاني من النقص في جوانب مختلفة بل وأكثر تأزّماً، لأن النقص الذي نعاني منه ربما يكون قد حصل ناتج خبرة غير كافية من أهلنا ومن دون قصد منهم، انطلاقاً من طرق التربية التي تلقّوها فلم يتمكّنوا من إدراكه، وبالتالي لم يتمكّنوا من تعويضه لنا أو حتى الشعور به، في حين أن تكرارنا السلوك ذاته، بعد علمنا وإدراكنا لكل تلك المشاكل، سيوقعنا نحن وأبناءنا في معاناة أكبر، لن نخرج منها أبداً بل سيزداد الأمر سوءاً، وأخطر صور لهذه المشكلة هو الانفصال الروحي والعاطفي الذي هو النتيجة الحتمية والذي سينشأ بالضرورة بيننا وبين أطفالنا، وكأننا نحن في واد وهم في واد آخر، بينما إن حاولنا أن نعفيهم، من خلال إدراكنا وفهمنا، ممّا نعانيه من نقص وعوضناه لهم فسنجد أننا أول المستفيدين، إذ إنه سيختفي من داخلنا، لأنهم سيبادلوننا به وبالتالي سينعكس الأمر إيجابياً علينا وعليهم، فنشبع جميعنا حاجتنا للحب والقبول، شريطة أن يكون هذا التعويض مقترناً بالوعي والقدرة على تحديد ما هو ضروري ومناسب وما هو غير ضروري أو يمكن تأجيله، وهذا ما يسميه علماء النفس بالذكاء العاطفي، الذي من المفترض أن يتعلمه الأهل قبل أن يقرروا إنجاب الأطفال.

هذا الذكاء العاطفي من أكثر آليات التعامل ضرورة في حياة الإنسان، لأنه لا يقتصر على تربية الأبناء فقط، بل يمكننا انتهاجه سلوكاً عاماً في حياتنا مع الأوساط المحيطة التي نعيش فيها، سواء في المنزل بين أفراد الأسرة الواحدة، أو في العمل، أو في الشارع ومع الجيران والأصدقاء، وفي حقيقة الأمر هو ما يجعلنا نلحظ نجاح البعض في الحياة الاجتماعية وتقبّل الجميع له على اختلاف مشاربهم وسلوكياتهم، بينما نرى البعض الآخر غير مقبول إن لم نقل مرفوضاً. فإن تعمقنا قليلاً في داخل كل منّا لوجدنا أننا جميعنا بحاجة إلى إشباع عواطفنا بشكل أو بآخر، وهذا هو السبب الرئيسي الذي يدفع بعضنا لانتهاج سلوكيات معينة قد تكون مرفوضة اجتماعياً تلبية لهذه الحاجة، في حين أن البعض الآخر يكبت حاجته تلك بذرائع اقتنع هو بها، ما سيجعله يعاني من الناحية النفسية، الأمر الذي سيتبلور بآليات متنوعة قد يكون أحد تجلياتها رفضه لتصرفات الآخرين ونقده الدائم لها، عبر سخريته الدائمة منهم ومن تصرفاتهم، والأخطر حينما يسعى لإيقاع الأذى بهم مختلقاً شتّى المبرّرات منطلقاً من مبدأ الانتقام وكأنهم المُسبّب لكل ما يعاني منه، أو من مبدأ الغيرة التي هي أحد المشاعر الإنسانية ذات الحدين المتناقضين.

نعيش حياة مليئة بالمشاكل والآلام والمعاناة، ولسنا بحاجة إلى المزيد من التعب النفسي والروحي الذي سينعكس على أجسادنا حتماً، لذا بات من الضروري أن نحاول تقليل تلك المشاكل بأن نسعى لفهم أكبر لذواتنا وأرواحنا وحاجاتنا، فإن امتلكنا القدرة على تحديد مشاكلنا بات من السهل علينا إيجاد حلول لها وتنحيتها جانباً، ما يدفعنا للانطلاق نحو تحقيق فاعلية أكثر بأقلِّ قدر من الخسائر وعلى مختلف الصعد، وامتلاكنا للذكاء العاطفي يساهم في مساندتنا لتجاوز مختلف العقبات التي تعترض طريقنا في هذه الحياة.

العدد 1104 - 24/4/2024