الحب بذرة تربتُها الأسرة

إيمان أحمد ونوس:

لا شكّ أن ما يتمتّع به الأبوان من صفات وخصائص وسمات شخصية ستترك آثارها وبصماتها النفسية والعاطفية كما الوراثية، فتلقى صداها في شخصيات الأبناء لاحقاً. كما أن لطبيعة العلاقة ما بين الأبوين/الزوجين الدور الأساس في صقل شخصيات أولئك الأبناء، وذلك بتعزيز القيم التي يؤمنان بها والعواطف التي يعيشانها ويتبادلانها. فكلما ساد الحب والاحترام والاحتواء تلك العلاقة، أنتجت أبناء يتحلَّوْنَ بتلك القيم فيما بينهم وبين الأبوين داخل الأسرة، وبينهم وبين محيطهم الخارجي لاحقاً، والعكس صحيح.

بالتأكيد إن الطفل لكي ينمو نمواً سويّاً وسليماً يحتاج قبل كل شيء إلى الحب والتفاعل والاهتمام، وبالمقابل لا يمكن للأمومة أو الأبوّة أن تسير بمسارها الصحيح إن لم تكن قائمة على الحب والقدرة على منح الطفل احتياجاته النفسية كما الجسدية، إضافة إلى احترام كيانه ورأيه حتى لو أخطأ. فشعور الطفل بمحبة والديه واهتمامهما يمنحه الكثير من الأمان والثقة بالنفس، ويمنحه القدرة على محبة الآخرين والتعاطف معهم، وهذا ما يُسمّى: الإشباع العاطفي، الذي يُعزّز توازنه النفسي وحضوره الإنساني في المجتمع.

لكن، هل ما زالت الأسرة تحتفظ بمكانتها المجتمعية بعدما عايشته على مدى سنوات الجمر في العقد الأخير، وهل ما زال الأبوان قادرَين على منح الأبناء ما يحتاجونه من رعاية مادية ومعنوية ونفسية ضرورية في مثل تلك الظروف؟ بالتأكيد إن الحرب وما خلّفته من تبعات نفسية ومادية ومعاشية قاسية قد تركت آثارها السلبية على الجميع، لأن للحرب قيمها وأخلاقياتها المنفلتة من كل عقال، مثلما لها قوانينها الصارمة والبعيدة إلى حدٍّ ما عن القوانين الإنسانية المعهودة والساعية للأمان والسلام الداخلي والطمأنينة النفسية.

لقد تركت الحرب الجميع خائري القوى، مُنهكين وغير قادرين على التعامل بسوية نفسية صحيحة، بسبب ما عايشوه وشاهدوه وتعرّضوا له من فظائع وأهوال، إضافة إلى النزوح والتشرّد وفقدان الأمان والأمن والاستقرار، وكذلك بسبب الفقد الذي عانته الغالبية من الناس، وكان الأكثر هولاً هو فقد الأبناء لأبويهم أو أحدهما على الأقل، ما أشاع في نفوسهم الذعر والخوف والقلق وفقدان الثقة بالنفس وبالآخرين، لما يمثله وجود الأبوين من حالة توازن نفسي وعاطفي للأبناء لاسيما في أعمار صغيرة. والمتتبّع لحياة بعض الأُسَر يلمس كم العنف أو القهر الذي تعيشه سواء بوجود الأبوين أو أحدهما، وهذا ما انعكس على حياة الآباء، وبالأخص الأمهات اللواتي وجدن أنفسهن وحيدات مع أطفالهن لا سند ولا داعم لهن، في ظروف معيشية قاسية لم ترحم أحد على الإطلاق، فكانت الخيارات في أغلبها مُدمّرة للأطفال حين تُقرّر الأم الزواج باحثة عن الاستقرار والدعم المادي والنفسي والعاطفي لعجزها عن مواجهة هذا الواقع، فيكون الشارع في غالب الأحيان مأوى لهم، إمّا للعمل أو للتشرّد بسبب فقدانهم لأمان حضن الأم ودفء صدرها، وهذا الحال بدا وما زال يبدو جليّاً في الشوارع التي تغصُّ بأطفال ويافعين شرّدتهم الحرب التي أفقدتهم بيوتهم مثلما أفقدتهم أبويهم أو أحدهما، حتى تخالهم هائمين على وجوههم في الحياة بلا مبالاة رهيبة تجاه أنفسهم وما يواجههم من مخاطر، كما أن العديد منهم لاذ بأشخاص وجدوا في أولئك الأطفال والفتية ضّالّتهم المنشود لتشغيلهم بأعمال لا تليق بقدراتهم الجسدية ولا بتكوينهم النفسي، وسواهم ممّن يجري استغلالهم في التسوّل أو نبش القمامة وما شابهها من أعمال لا تليق مطلقاً مع أعمارهم التي تحتاج إلى كثير من القيم الإنسانية مثلما تحتاج إلى الدفء والحب.

لقد عملت الحرب على خلخلة البنية النفسية للمجتمع بأسره، فسادت أخلاقيات سلبية لم تُقِمْ وزناً للإنسانية، وبات الصقيع يخيّم على حياة الغالبية ومشاعرهم، حتى انتقلنا من مسار عاطفي كان يسم حياتنا وقراراتنا وعلاقاتنا إلى مسار لا هو عاطفي ولا هو عقلاني ولا حتى منطقي عمل على تبليد المشاعر والأحاسيس والقيم حتى داخل الأسرة ذاتها، فباتت أشبه بمأوى للنوم وتلبية احتياجات لا يمكن تلبيتها سوى في البيت، بينما علاقة أفرادها فيما بينهم باتت علاقة واهية لا تتعدى صلة الدم المفروضة لا أكثر.

وما لم تجرِ إعادة تأهيل للمجتمع، وما لم يُرمَّم ما خرّبته الحرب في نفوسنا، وما لم تنبعث من دواخلنا نسائم المحبة تجاه بعضنا وتجاه أطفالنا وأولادنا، لا يمكننا بأيّ حالٍ من الأحوال إعادة البناء المنشود، لأن بناء الإنسان وتأهيله هو الركيزة الأساس للنهوض بالعباد والبلاد من تحت رماد الحرب.

العدد 1104 - 24/4/2024