(رح ينقطع النّفَس الباقي بهاليَومَين)!

غزل حسين المصطفى:

صعدت إلى الحافلة منتصرةً، تُباهي بإنجازها، كانت تفاصيل وجهها تُزغرد، وقبل أن تجلس في مكانها حملت هاتفها المحمول: (حصلت على مخصّصاتنا من الزيت… انتظروني على الغداء كي نأكل البطاطا المقلية التي ترغبون!).

وقبل أن تنتهي المكالمة بادرت زميلتها: (مبارك أم خالد، كان الطابور طويلاً، ولكنّك صبورةٌ جداً).

لم أتحمّل أن يبقى ذهني مُركّزاً مع هذا الحوار، وضعت السمّاعة في أذني وهربت إلى صوت جوليا بطرس، ليؤنس البؤس الذي شُحنت به، ولكن خفايا الحدث بقيت تلاحق أفكاري، أيُّ زمنٍ هذا جعلنا نُباهي بحصولنا على حقوقنا!؟

أيُّ زمنٍ هذا جعل أصناف الطعام (البسيطة) تحتاج إلى مخطَّط واستراتيجيات محسوبة؟

أيُّ قهرٍ هذا الذي نتعاطاه على الطوابير؟!

أما من منقذٍ يهزُّ كياني ويصفعني حتى الخدر لعلّني أصحو من كابوسي هذا؟!

تتقاذفنا المصائب والشدائد، وعلينا بكلِّ بساطةٍ أن نتلقّى اللكمات النارية بروحٍ رياضيةٍ وابتسامةٍ عريضةٍ، لأن حالنا مازال أفضل من فُلان وفُلان!

تحوم في ذهني صورةٌ لمجسّمٍ كان يصوّر أعباء الأم، إذ جعل كلّ الأجهزة الكهربائية وتفاصيل المنزل محمولةً على ظهرها وهي تمضي في الحياة، لكن ما أضافه ذهني إلى تلك التفاصيل هو حزامٌ ناريٌّ يُطوّق جيدها ورقبتها يسحبها إلى الموت، يقطع النفَس، يسلب القوة، يضع الشروط اللاإنسانية، وهي تستمرّ في الصراع من أجل أطفالها.

ولا يقتصر هذا المشهد على الأمّ، إذ أضاف عقلي صورة مُبتكرة لأبٍ لم يحمل الأجهزة الكهربائية فقط، وإنما كانت كلُّ الصورة تقوم فوق منكبيه والنار مستعرة تلتهم أجزاء جسده بكل لذّة.

نعم، بهذه المرارة والقبح والصعوبة باتت معيشتنا اليوم، حتى الطفل الصغير البريء دخل دوامة الحياة عنوةً، فصار يدرك تماماً معنى الغلاء، وكيف عليه أن يكبت رغباته خوفاً على والده الذي مات النور في عينيه من سواد أيامه الكالحة.

في خضمّ هذه الأفكار تصلني رسالة نصية على هاتفي المحمول من إحدى الشركات تُعلمني فيها عن عروض (عيد الأم وعيد المعلم)! ما كان ينقص غضبي وأفكاري إلاّ فتيلٌ جديد يُلهب دماغي.

امتعضت، أيّ احتفالات؟!

هل نحن قادرون على أن نعود إلى زمنٍ مضى: نبتاع الهدايا، ونمدُّ الطاولات ونغطّي سطحها بما لذَّ وطاب!؟

أيّ عبءٍ هذا الذي سيُضاف إلى قائمة المصاريف الشهرية؟!

هل سيحمل الأطفال هداياهم لمعلّميهم في ذات صباحٍ!؟

بعد كل هذه التفاصيل التي تعتصر كلا الوالدين، أنُقيم للأم احتفالاً ونُنحّي الأب جانباً؟!

وهل يمكن أن نردّ لهما جزءاً صغيراً يُبلسم جراحهما ويسند كدّهما وإرهاقهما؟!

أيمكن لساعات احتفالٍ قليلة أن تمحو ما قبلها؟!

أيمكن أن نعيش ساعات الفرح، بطولها وعرضها، ونُفعّل زر النسيان المؤقت؟!

لا أملك جواباً حقيقياً، كلّ الذي أفكّر فيه: كيف سأسعف الأمل الذي يُحتَضَرُ في داخلي؟!

أقسم إنّني ما كنت يوماً سوداوية، ولكن الأمور تخرج من نطاق سيطرتي.

وكما يقول زيّاد الرّحباني: (رح ينقطع النّفَس الباقي بهاليومين)!

العدد 1105 - 01/5/2024