حياةٌ لنحيا

ماري مرشد:

أن تعطي دون مقابل…

أن تستردّ لك الروح بابتسامة عفوية تمرُّ فوق الشفاه…

أن تُمرّر نفساً طويلاً لتعطي من وقتها حيّزاً وتكون معك…

تطايرت خصلات شعره الناعم على وجنتيه وهو يركض ضاحكاً لاستقبال والدته بعد غيابٍ دام أشهراً، حضنته وعيناها تضجّان بالدموع، مُتفحّصة تفاصيل وجهه البريء الذي لم يرَ من الحياة شيئاً، أخذت تنهيدةً طويلة محاولةً إخفاء حزنها الذي اجتاح روحها، سارحةً في المستقبل القادم لطفلها: كيف ستتركه؟ ولمن؟ وكيف سيغدو من دونها وهي التي لم يبقَ لحياتها الكثير، بعدما أنهكها المرض، وتلاشت رغبتها في الحياة، ولم يبقَ في خيالها سوى صورة طفلها؟ حينئذٍ أسدلت جسدها الحاني وبقي وجه طفلها آخر ما رأته.

حين نتكلم عن المرأة تتبادر إلى أذهاننا كلّ الأدوار، ويصعب تحديد ما هي عليه حقّاً، أهي الأم أو المعلمة أو امرأة المجتمع؟

لربما سنحسب ذلك من الأدوار اللعينة التي قد تُسنَد لها عنوةً، أن تكون قوية كل الوقت، ومصدر الأمان للآخرين، وأن عليها أن تبقى صامدةً لأنهم يتعلّقون بها، وأن تجد نفسها في النهاية بلا خيارات، رغم أنه يتحتّم عليها الاستمرار في التجديف دائماً، ومن سيُصدّق أنها مثل الجميع بحاجة إلى التعلّق بأحد أيضاً.

كل هذا يعطيه جسدٌ واحد لا يكلُّ ولا يملّ، يبقى معطاءً لأبعد الحدود، فتضجُّ المجالس بذكرها وتُرسم الجنة تحت أقدامها، وقد تجسّدت كل معالم القوة فيها عبر التاريخ، من ملكات حكمن، ومن سلطة فرضت حاملة العصمة بيديها ثابتة مكانها كزنوبيا وكليوباترا وكثيرات غيرهن، ملكاتٍ رضخ التاريخ لهن كنّ رمزاً للحكمة والقوة والرأي الصائب، متواليات على مرّ العصور إلى يومنا هذا حتى تكلّلت هامة التاريخ بأسمائهن بصورٍ فخرية كثيرة.

‌كما يُلقى عليها عبء حمل الطفل في أحشائها تسعة أشهر، تتحمّل خلالها كل التقلبات المزاجية وتبدّل هرموناتها، وتستمر في روتين حياتها اليومي والعمل إن كانت موظفة، ممّا يوجب عليها مهامّ أكثر وأصعب، محاولة وضع حلول وتنسيق بين عملها وبيتها، خادمةً المجتمع بأكمله باختلاف أدوارها وتعدّدها.

‌لم يكن المجتمع يوماً عادلاً مع المرأة، لم ينصفها في حقوقها كاملة، إذ ما زالت تتعرّض لكل المضايقات، من عنف وعصبية وحرمان من الميراث وتمثيلها في أغلب البيئات الاجتماعية، وليس لها الحق في اتخاذ القرار، فدائماً هناك من ينوب عنها: أخوها، أو أبوها، أو زوجها، أو أحد أقاربها الذكور. إضافة إلى ذلك هناك صور التحرّش الكثيرة التي تصادفها أينما ذهبت وحلّت، والتي تكون مظلومة جداً فيها، وليس عليها سوى الصمت وعدم الكلام لكيلا تقع في فخ الفضيحة أو الإدانة. ولا يقتصر الموضوع على ذلك، بل هناك الكثير من المشاكل التي يحفل بها المجتمع الذي من المفروض أن يكون معها لا عليها، ابتداء من أمور بسيطة وحياتية، كالإنصاف في عمل المنزل بينها وبين زوجها وأطفالها، وأن يكون لها راتبٌ عالٍ، وألا يكون هناك دائماً فرق في الرواتب مع الرجل لكونها أنثى، ولا نغفل أن هناك بيئاتٍ استطاعت التخلّص من تلك الفروقات وإيجاد حلول لهذه المسائل، كتلك الجمعيات الممكّنة والداعمة لها، التي تُتيح فرصة التعليم وإتقان مهارات الحاسوب والمهن على اختلافها.‌ورغم كل ما ذكرنا، لا يزال يلزمنا الكثير للنهوض بمجتمعنا من خلال النهوض بالمرأة، لأنها ليست فقط نصف المجتمع، بل كلّه من خلال المهام المنوطة بها.

العدد 1104 - 24/4/2024