الأم الحزينة

مرح محمد نبيل السمكري:

من لحظة خروج الأنثى من شرنقتها وتسلُّل الحياة إلى جسدها، يولد معها شعور عظيم، يتجلّى بالحب والعطف والمسؤولية، ويقع هذا الشعور تحت عنوان (شعور الأمومة) إذ يكبر معها هذا الشعور، فبينما يلعب أشقاؤها الذكور بالكُرة والبنادق البلاستيكية، تجدها تُعانق دميتها وتُطعمها وتُسرّح شعرها، وتحافظ عليها من البرد فتُغطيها بلحاف سميك وتقبّلها على جبينها.

تكبر طفلتنا وما زال قلبها مُعلّقاً بتلك اللعبة، لكن الحياة تشغلها عنها، إنما دافع ذلك الشعور لا يخبو أبداً، يستيقظ مع رؤية كل مخلوق لطيف وصغير، سواء كان عصفوراً، قطةً، وردةً بيضاء، أو طفلاً تصادفه في الشارع، تتعلّق بكل تلك التفاصيل وتتمنّى أن تُصبح أمّاً يوماً ما. حتى تأتي مرحلة الزواج (الوسيلة) التي تُقدم عليها الفتيات غالباً بدافع الإنجاب والأمومة.

وبعد الحمل والولادة، تتوقّع أنها ستعيش نشوة الحلم ولذّة الشعور، لكن ما يحدث أحياناً عكس ذلك تماماً، فقد تُصاب بعض السيدات باكتئاب شديد يجعلها كارهة لنفسها ولطفلها الذي انتظرته طويلاً.

اكتئاب ما بعد الولادة، هو حالة تُصيب السيدات بعد ولادتهن بحوالي أربعة أيام، وتستمر لعدّة أسابيع في الحالات الطبيعية، وتنشأ بتأثير أسباب هرمونية مثل هبوط هرمون (الاستروجين والبروجيسترون) والهرمونات التي تُفرزها الغدّة الدرقية، ممّا يجعل المرأة تشعر بالكسل والتعب، إضافة إلى أسباب نفسية تعاني منها الأم غالباً مع مولودها الأول، مثل خوفها من ألاّ تكون أمّاً مثالية وجديرة بالأمومة، أو خوفها من انعدام حياتها الشخصيّة، إضافة إلى اضطراب حالة النوم لديها بفعل بكاء الصغير، واضطراب نظام حياتها أجمع. ويزيد احتمال الوقوع في الاكتئاب إذا كان الزوج غائب الدور ولا يؤمّن لزوجته الاهتمام والعطف الكافي في هذه الفترة.

تتلخص أعراض الحالة بتقلبات المزاج، والإفراط في البكاء الشديد حتى على أتفه الأسباب، والابتعاد عن العائلة والأصدقاء، فقدان الشهية أو تناول كميات كبيرة من الطعام، الأرق، التعب البالغ وفقدان الطاقة، عدم الاستمتاع بالنشاطات المُفضّلة، قلّة التركيز، التململ من أي نشاط تقوم به مهما كان بسيطاً، نوبات القلق والهلع الشديد والتفكير في الموت.

ومع كل هذه الأعراض يبقى الوضع طبيعياً وضمن السيطرة ما لم تزدَد الأعراض سوءاً، وما لم تتجاوز مدّة الحدّ المعقول، ويمكن معالجتها بمساعدة الأهل والأصدقاء والزوج، واهتمامهم بالأم الجديدة.

لكن مع الأسف قد يصل الاكتئاب إلى درجة تدفع الأم لأذيّة نفسها وأذيّة طفلها، والحل عندئذٍ يتطلّب مراجعة طبيب نفسي سريعاً. إلاّ أن مجتمعنا مازال إلى هذا اليوم يعيش (فوبيا الطبيب النفسي) ويعتبر زيارته وصمة عار ستحفر في حياته لأن هذا الطبيب لا يزوره إلاّ المجانين والمعتوهين في رأيه.

لذلك تتكتّم غالبية الأمهات على ما يشعرن به، وتعيش كلٌّ منهن جحيمها بصمت، والزوج جاهل ما يحدث ولا يرى منها إلاّ تغيّرها وسوء معاملتها له ولطفلها ولنفسها حتى، وما يلبث أن ينفجر عليها ويضيق ذرعاً بهذا (النكد) الذي يستوطن بيته، وقد يتهمها بالخيانة أو وجود أسرار في حياتها لا يعلمها، فذلك الرجل الذي يقتنع بأن الطبيب النفسي هو طبيب المجانين من المؤكّد أنه لا يعرف أي شيء عن الحالات الهرمونية والبيولوجية والسكيولوجية التي تمرّ بزوجته، لينتهي به المطاف لشجارات تصل إلى الطلاق مُخلّفاً من بعده طفلاً وزوجة ضحية الجهل.

قد أعذر جدّتي على جهلها بهذه الحقائق، لكنّي أُدين كل شخص جاهل في هذا العصر، لأن العلم أصبح متوفّراً أكثر من الهواء، وسهولة الوصول إليه أكبر من سهولة شرب الماء، فلا مُبرر للجهل اليوم سوى الحماقة، لذلك لا حيلة لنا سوى إجبار الناس على التعلّم، وذلك بإجراء محاضرات عند تثبيت الزواج في المحكمة تحكي بماذا يختلف الرجل من المرأة في تفكيره، تحكي عن حقوق الرجل والمرأة في الشرع والقانون، وعن التقلبات الهرمونية التي تؤدي لاشمئزاز المرأة من زوجها أثناء الحمل، وعن حالات الاكتئاب التي تقع بعد الولادة. ويوجد أيضاً مسؤولية على الطبيبة النسائية المسؤولة عن مراقبة الحمل في توعية الزوجين حول كل التغيّرات النفسية والجسدية التي تقع في هذه الفترة.

مريض الاكتئاب بكل حالاته غريق يحتاج إلى يد المساعدة، لذلك لابدّ للإعلام من التوعية التي تناسب جميع المستويات الثقافية وترسيخ فكرة أن المرض النفسي ليس إلاّ اضطراب هرموني، لا جنون ولا مسّ شيطاني.

العدد 1105 - 01/5/2024