الغرفة 15

غزل حسين المصطفى:


أتكون هي المحطة الأخيرة؟
أيُعقل أن تُكحّل أهدابي في كلّ صباح هذه الجدران البيضاء؟
أين هي حقول القمح؟
أين أصابع أمي تضفر خصل شعري؟
أين أحلامي أنا؟
تكوّر بطني لشهور، فَقَدَ شعري جاذبيته، أسدل الحمل كلّ الستائر من حولي فغرقت في النوم، وقطع شهيّتي عن الأكل، إلى أن أيقظ الألم كلَّ عظامي، كان يعتصر كلَّ الخلايا في جسدي، ساعات طويلة كنتُ أصرخ على أمي، ولكن صوتي لم يُجدِ نفعاً في غربةٍ صفراء الوجه باردة الأصابع، تُمسك بي فتؤلمني عوضاً عن مساندتي، كلماتهم الأجنبية لم تُبلسم جرحي، كنَّ في نظري آلاتٍ طبية لا ملائكة رحمة.
صرخٌة واحدة لطفلتي قلبت الموازين كلّها، وكانت (حياة).
انتظرتُ ولادتها لأنها حياة، لأنها حياتي أنا.
وللمرّة الأولى في غربتي شعرت برئتيّ ونبضات قلبي، كفكف زوجي دموعي وقال: (الحمد لله على السلامة حبيبتي، بدي اتصل طمّن أهلنا، بتقدري تسمّعي صوتك لأمك؟)
جملةٌ قد تكون طبيعية، لا تحمل أيّ شائبة، لكنها نفثت النار على جرحي، أين أمي، أنا وحيدة.
هذه التفاصيل التي روتها (ندى) باختصار، نعم إنه اسمها قبل أن تكون (الغرفة15) في أحد مشافي السويد. تراكمت التفاصيل وتراكمت إلى أن حوّلتها في غمرة بهجتها أنها صارت أم، إلى أنثى مُثقلة بكل شيء. تنظر حولها ولا تجد إلاّ خيالاتها تحوم في كلّ مكان، ليالي سهرٍ طويلة تقضيها مع بكاء رضيعتها، لا تُدرك من أين يمكن أن تُنهي هذا الدور، لم تكن ذراعاها خارقتين لتقوم بكل الأعمال الواجبة عليها، أو ربما لم تكن قادرة على أن تعتني بطفلة لا ذنب إلاّ أن أمها تُركت بمفردها أمام أعباء جديدة ومسؤوليات لم تختبرها من قبل.
وهنا لا يُمكننا أن نُغفل التغيّرات الهرمونية التي ترافق الأنثى خلال حياتها، إذاً، ماذا عن التّغيرات ما بعد الولادة، هل تجاوزناها!؟
مضينا إلى طبول السعادة نقرعها لمولودٍ جديد، وأمٍّ رفعت راية النهاية بكامل صحتها، نتجاهل عن قصد أو غير قصد حجم الخطوة التالية، إذ لم تنتهِ المسؤولية عند الخروج من باب المشفى، بل بدأت من هناك رحلة مُغايرة يُسيّرها (الشريك) إذ يُعوّل عليه هو في البداية، ونمضي فيما بعد إلى الدائرة الأبعد فالأبعد لنشمل المجتمع كله.
لماذا؟ وما المقصد؟
في ظلّ مجموعة متغيّرات تطرأ على الأنثى ما بعد الولادة قد يُخيّم عليها شبح اكتئاب ما بعد الولادة، وإن لم يُستدرك فقد نصل إلى نتائج غير مقبولة.
ها هي ذي ندى في سريرها وحيدة مُبعَدَةٌ عن طفلتها، فقد كان لانعدام الوعي من الزوج والمحيط في استدراك حالتها، بعد أن تطورت بها المعطيات على مدار عام ونصف وصلت بها إلى المشفى، بعد أن نظرت ذات صباح إلى سرير طفلتها وهي تبكي في محاولة نداء لها، أرادت أن تضع الوسادة على وجه الطفلة لتُنهي مسألة البكاء، وصوت ضغط الأعباء الذي يصرخ في رأسها.
لو لم تستدرك الحياة أو ربما القدرة ذلك الموقف لكُنّا اليوم في مصيبة أكبر من مرض قيد العلاج.
ماذا عن تلك المشاكل التي لم تكن عن سبق إصرار وتصميم، إنما هرمونات ومتغيّرات خارجة عن سيطرة أنثى وصلت بها الحال إلى الطلاق؟!
(نكدية أو عم تتدلل) عناوين مُعتادة ندرج تحتها أيّ تصرفٍ استنكاري أو مطلبي للأنثى، دون السؤال عن حقيقة الأمر.
فمبلغ مالي يأخذها للتسوّق وقائمة طويلة من الكلمات الغزليّة أو بعض اللكمات التي تلوّن وجهها هي الحل.
إلى متى؟
كيف سنعوّض الطفلة حياة عن وجود أمها حين كانت خطوتها الأولى؟
كم من (ندى) في مجتمعنا تئنّ في صمت؟
كم من عائلة كُتب لها النهاية بطلاقٍ تعسفي، إذ لم تستوعب جدران المنزل أصوات المشاكل؟
كم نحتاج من وعي وتفكّر وحكمة قبل أن نطلق الأحكام القطعية على الأنثى في سياق قالب نمطي ونُعمي النظر عن الحقيقة والسبب!
كم علينا أن نُجمّل ونُبهرج كلمة (توعية) لتكون سائغة للجميع ولا تُعتبر إدانة مُبطّنة بالجهل والتخلّف والأمية و…الخ!
قد يكون عزائي الوحيد أن (ندى) تُستدرك حالتها رغم ما ضاع منها من لحظات سعادة مع طفلتها، كما أن كل الذين سمعوا بقصتها اعتبروا وبدأت السيالات العصبية تتوارد إلى أدمغتهم تُعيد ترتيب بعض المعلومات والحكم المُستخلصة من القصة.
لكن، هل سنُضحّي بكثيرات من أمثال ندى حتى نصل إلى وعيٍ كافٍ!؟
أنا اتخذت القضية حِملاً إضافياً في جعبتي، في كل مجلسٍ وفرصةٍ سأفتح دفاتري وأخبر الكلّ بما جمعت من معلومات علمية وتجارب إنسانية لنُعيد رسم الحياة الإنسانية بألوان أكثر بريقاً ومعالم دقيقة لا يستعصي فهمها على أحد.

العدد 1104 - 24/4/2024