من رسم لنا المسار؟

غزل حسين المصطفى:

بعد أن وضع آلته الموسيقيّة جانباً نظر إليّ قائلاً:
أتُدركين ماذا يعني أن تُكبّلي نسراً بأصفادٍ حديديّة وتجعليه يسير على الأرض مُرغماً طائعاً في خطٍ مستقيم دون أن يُدرك ماهيتهُ وتكوينه!؟
أتُدركين ماذا يعني أن تعيشي لسنواتٍ طوال مُثقلة بمجهود ممارسة فعلٍ لا يليق بكِ؟

أنا عِشْتُ كلَّ تلك الحالات!!
قضيتُ عُمراً وأنا أجُّر أجنحتي وكأنها عقوبة قدرية كانت تزيد تعاستي.. في كلّ مرّة أراها تنمو وتزداد صلابة.. لم يكن لديّ مساحتي الشخصية لأُجرّبَ تحريكها أو التَّعرّفَ عليها أو التَّصالح معها..
أنا الآن شابٌّ عشريني تحرَّرتُ أخيراً من حرماني العيش كما خُلقتْ لأكون كما أُحِبّ.
في كلِّ مرّة كنت أمرُّ من أمام ذلك المتجر أقف وكأني قد غُرِسْتُ أمام تلك الواجهة البلّورية أشعرُ بخفق قلبي، أشمُّ رائحة المكان وأسرِقُ من الفضاء صوتاً تسلل فأشعرُ حينئذٍ أن جوف قفصي الصدري يُعرّش عليه النغم.. وفي خِضَمِّ كل تلك المشاعر تقتلعني يدُ والدي حتى أُكمل مساري!!
أمضيتُ سنوات عمري وأنا أعيشُ هذه الحالة مِراراً وتكراراً أمام متجرِ الآلات الموسيقية، لم تترك لي فرضيات مُستقبلٍ قد رُسِمَ لي الفرصة حتى أقرأ نفسي وأنظر إلى روحي في المرآة. إلى أن هبَّتْ رياح فتاة وقعتُ في غرامها، أخبرتُها أنني أقتاتُ موسيقا، وأنها ضماد جراحي منذ زمن، وأخبرتها كيف تخلق رؤية الآلات في داخلي حالة رهيبة من السعادة.
ولأن كيدهنَّ عظيم … لا لا أنا أمزح!! ولأن فتاتي هذه قرأتني كما يجب، أعلنت حالة الاستنفار والطوارئ إمّا أن أقتني آلتي المُفضّلة وأبدأ بالعزف، وإلاّ ستكيدُ لي بطريقتها.
لم يمضِ على ذلك إلاّ ثلاثة أشهر أو يزيد، وها أنا ذا قد قطعتُ مراحل مُتقدّمة جداً في العزف قياساً بالزمن.

استطعتُ تغيير مساري، وجدتُ نفسي أخيراً… لكن كم من حالة تُشابهني في الخطوط العريضة ولم تُكشف عنها الستارة، تعيش في قالبٍ مُسبَقِ الصُنع، نحن لم نُترك حتى تنضج رؤيتنا وتجاربنا.. نتحسَّس عالمنا بشكل صحيح ونجد موقعنا الصحيح من الإعراب.
لم أستطع مُخالفتهُ الرأيّ مبدئياً، والمشكلة أن الموضوع لا يقتصرُ على مُمارسة هذه السياسة ما بين البشر فقط.
اليوم لو دقّقنا النظر وتمعنّا في مُجريات الواقع.. لا شكّ ستعترضنا أسئلة عدّة:
هل السياسات المُتّبعة تنمُّ عن إرادة الشعوب؟
هل الصورة المرسومة تُعبّر بشكلٍ واقعي عمّا يحدث؟
هل كانت الحدود السياسية المرسومة محضُ تجربةٍ أم هي تتبع لسياسة مُعيّنة وأهداف أعمق!؟
الإجابات واضحة كقرص الشمس لا داعي لفرد النقاشات حولها، فأهل مكّة أدرى بشعابها، ونحن أدرى كيف نُصلِحَ أمورنا أو كيف يُمكن أن تُصلَح.
برأيي، كما كلُّ الأشياء، لو ننطلق بها من الدائرة الصُغرى أولاً سنرى بقيّة الدوائر تتغيّر مع الأيام وبحكم المثابرة.
أمّا تنسيق الخطابات السياسية والحوارات الرنّانة حول آلية التربية وأُسُسِ التّعامل مع الطفل أو الشّاب، فلا رجاء يُرتجى منها دون فعلٍ ومساحة من الحرية لنكون كما نرغبُ لا كما يُراد لنا أن نكون.

العدد 1105 - 01/5/2024