نرسيس أسير أكثر الأقفاص هشاشة.. مرآة ظاهره

سامر منصور: 

لعلَّ النقد الذاتي هو من أكثر أشكال النقد البنّاء. ولعلَّ مشكلتنا في بلادنا العربية هي عدم رواج الفكر الموضوعي، بل رواج الفقر والفساد واعتماد مبدأ (الشطارة والفهلوة) وهذا كلُّه يُكرّس التنافس غير الصحي مع الآخر، وأنماطاً سلوكية كتحجيم الآخر ومحاولة إزاحته والتقليل من شأن مهاراته وكفاءاته، ولذلك نجد العديد من الأفراد لا يقبلون النصيحة بقدر ما يتخذون ازاءها (وضعية دفاعية) كما يُسمّى في علم النفس، فيعتبر الفرد النصيحة عدواناً على شخصه وبمثابة إصدار حكم قيمة لشخصيته بمجملها.. وكلما كان المجتمع يعيش سيادة القانون والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص بشكل أكبر، تضمّن منافسة شريفة وتكرَّس فيه التّعاطي الموضوعي.. فالإنسان ينظر إلى الآخر وفق ثنائية، إمّا شريك وإمّا مُنافس.

وبما أن الحروب والفقر الذي يصحبها يُخرِجُ أسوأ ما في الناس، فهنا يسود الاستغلال مكان التعاون، والتّسلّق واقتناص الفرص مكان التنافس الصحي البنّاء، فنُصبح أمام نمطٍ يُمكننا تسميته بـ(الانسان القنفذ) ولا مخرج إلاّ بزيادة الوعي الذي لن يتمّ إلاّ بإنعاش الوضع المعيشي المتردي حتى يُتَاح للإنسان التفكير خارج إطار رغيف الخبر وصراع البقاء، والانتقال الى فضاءات العطاء والتعاون الانساني الابداعي والخلاّق اللاّزم للنهضة ولإعادة الإعمار بشقيّها المادي والمعنوي.

إنَّ التنافس السلبي ينعكس على اقتصاد البلاد وجميع أحوالها، وكذلك التنافس السوي الإيجابي والتشارك والتعاون أيضاً.. فالأول يُكرّس الطبقية بخلاف الثاني. أمّا على صعيد الدول، فيُعدُّ التدخّل الخارجي حتى على سبيل النصيحة محضَ تجيير لمصلحة الآخر، فنحن لا نستطيع أن نُصدّقَ مثلاً أن الدول الصناعية الكبرى تريد للعالم كله أن يتطوّر ويصل إلى أعلى المراتب، فمن أين سيأتون حينئذٍ باليد العاملة الرخيصة ودول استهلاكية تستورد منتجاتهم إن أصبح الجميع متطوراً ومُنتجاً على جميع الأصعدة؟ لذا، نحن لا نستطيع الاعتماد على مصداقية الآخر في نصائحه وإشاراته.. إلاّ من يُقاربنا جغرافياً ونهضوياً، وتؤتي شراكته معنا فوائد مشتركة.

ويبقى بالإمكان أن نأخذ العلوم المُجرّدة من الدول المتقدّمة من فنون الإدارة وعلم الاجتماع وعلم النفس وكل ما في الفضاء الإنثروبيولوجي ونُثمّرهُ في الارتقاء بمجتمعاتنا ثم نُلحِقَ به علوم التكنولوجيا الذكية (في شق الاستخدامات المدنية) بعد أن تكون مجتمعاتنا قد أضحت مؤهّلة للتعاطي معها بشكل بناء.

إنَّ التغيير الذي يكون ناتجاً عن الاستفادة من تجاربنا وتجارب الدول الأخرى في إطار العمل التشريعي والقانوني والمؤسساتي بشكل عام هو ما يجعلنا نخرج من قوقعتنا كمجتمعات عربية.. فنحن لم نعد في مجتمعٍ قبلي بحيث نُبقي على مقارنة فارس هذه القبيلة بفارس تلك القبيلة أو عدد النعاج والأكباش أو ضخامة الخيام!! بل ببساطة الدولة التي تتمتّع مؤسساتها بجهاز رقابي وأداء موضوعي أفضل وأنضج هي الدولة الأقوى والأكثر تقدماً.. أمّا الحاصل اليوم فهو سيطرة الشوفونية العالية على بلاد عربية تُجيّر الكثير من مؤسساتها لمصالح شخصية ولفئة مُتَنَفِّذَة، والإبداع والتركيز يكون على كيفية تملُّق هؤلاء والتقرّب منهم بغية الحصول على الترقيات ودخول دائرة النفوذ، وليس على أساس خدمة الحالة الموضوعية التي تقوم المؤسسة على رعايتها أو تخديمها أو تكريسها.. وقد لاحظنا خلال سنوات الحرب إعطاء مجال أوسع من الحرية للصحافة في دول مثل سورية لنُمارس عبرها نقد الذات سعياً للارتقاء.. فالمركب المنخورة بالسوس في داخلها هي الأضعف أمام العواصف التي تُحيط بها وتعتريها أو تعترضها.

العدد 1104 - 24/4/2024