على أطلال بطل

غزل حسين المصطفى: 

شعرت بأن شيئاً ما يُمسك بيدي ويشدُّ دفاتري، في البداية اعتقدت أنه وهم نتيجة لشرودي، ذلك أن شبح الامتحان يُسيطر عليّ، فهو هناك على بعد شهر واحد يُعدُّ عدَّته لنا وأنا أقف هنا أنتظر حافلة تقلني لمنزل وسط أزمة مواصلات خانقة، لكن زيادة القوة دفعتني بشكل لا إرادي لأنظر… ذلك المشهد كان الصدمة الكبرى لي، فشكله غريبٌ جداً، وقد يكون لكم أيضاً.

قلت له من أنت؟ ولما تشدُّ يدي؟

نظر إلي بكل حزن والصمت ظلّ يحول بيننا، حتى بُترت تلك اللحظات بنفس عميق خرج من صدره، قد حسبته النفس الأخير قبل أن تطوف روحه بعيداً.

قال: كنت أبحث عن ضماد لجرحي، لا أريد أن أموت قبل أن أعود لها.

قلت: وكيف يكون الضماد في يدي وبين دفاتري؟

قال: أنا خُلقت في خيال كاتب، ولدتني عواصف تفكير طويلة، كان المخاض سهلاً ولكن تعبتُ وأنا أكبر، تذوّقت كل أنواع الحبر قبل أن أُصبح بهيئتي النهائية بين أصابع أنثى جميلة أعادت ترتيبي على مفاتيح آلة كاتبة، وها أنا أموت على الرصيف وحيداً، هل هذا مقبول بتصورك..؟ لقد تركتها وحدها هناك… أين أنا من وعد قطعته بألاّ تنام يوماً إلاّ على ذراعي؟

قلت: دعني منك ومنها وقل لي من أنت بالضبط؟

قال: أنا النهاية في حين كنت يوماً البطل، ذنبي الوحيد أني تصيّدتُ الفرصة وخرجتُ أسرق لها مِشبكاً جديداً لشعرها، وأجمع بعض الأخبار، فقد مضى زمنٌ طويل على تحريرنا!

قلت: وأي ألغاز تُحدثني بها؟ من أنت بوضوح وإلاّ!

قاطعني ليقول: أنا من زمن تجهلونه ومن عالم قد هُجر، حلّ عوضاً عنّا مجموعة تطبيقات وملفات رقمية تتباهون بها لتكونوا في الصفوف الأمامية في سباقكم مع العصر والتكنلوجيا.

أنا بطل من رواية قديمة مركونة على رف خشبية، لي من الأصدقاء القدماء الكثير، عشنا معاً التفاصيل حرفاً بحرف وصفحة صفحة حتى توفي العم سامي أغلقتُ دفّات الكتاب ورائحة قهوته مازالت عالقة بين الأوراق، لم يفكّر أحد من بعده أن تُكحّل رموشه ليالي قريتي.

هجرتم الكتب؟ لماذا؟

القراءة ياجميلتي هي النبع الصافي الأكرم الذي يروي تلافيف المخ ليعشوشب، وتستطيع نظم أعظم المقطوعات الموسيقية على شرايين قلب عاشق يغوص بين السطور باحثاً عن خصل شعر محبوبته.

هل الملفات الإلكترونية من خلف الشاشات الصغيرة  تحتفظ ببريق عيونكم، تستطيعون تدوين الحرف الأول من اسمكم على هامش ورقة صنعتُ من سطورها فستان عيد.

صدقاً، لم يكن بمقدوري الردَّ على كلامه، فأنا اليوم أرى أن الكتاب صار(ديكوراً) والقراءة (بريستيجاً ثقافياً) يا أسفي أين نحن!! لا أنكر أن الموضوع ليس تعميماً، ولكن بالمجمل الكتب هُجِرَتْ.

وأمام ذاك البطل الذي بدأ ينزف أمامي وباتت الحروف تتسرّب من كل خلية فيه قلت بلهفة: قل لي كيف أضمّد جرحك وأعيدك إليها؟

قال: الحياة تغيّرت جداً وأنا ضللت الطريق وليس لدينا متسع من الوقت لنجد كتابي.. إذا كنتِ تريدين بحق مساعدتي، افتحي أوراقك وأعيدي كتابتي من جديد، لعلّني أموت بكبرياء!!

وعلى أطلال ذلك البطل كانت حروفي هذه نزولاً عند رغبته.

العدد 1105 - 01/5/2024