نظام النقد العالمي وتقلّبه بين الماضي والحاضر (1 من 2)

يونس صالح:

شهد العالم قبل أكثر من قرن ثلاثة نظم عالمية نقدية هي: نظام الذهب الذي ساد خلال الفترة من النصف الثاني للقرن التاسع عشر حتى بداية القرن العشرين، ونظام مناطق العملات الخمس الذي ساد بعد الحرب العالمية الأولى، ثم نظام الصرف الثابت للعملات تحت راية صندوق النقد الدولي، ويلوح في الأفق نظام نقدي رابع لم تتبين أبعاده كاملاً بعد.. فكيف تم هذا الانتقال؟

 

نظام الذهب

تشير معظم المراجع العلمية إلى أن نظام الذهب لصرف العملات قد حقق استقراراً في الأسواق المالية والنقدية العالمية، ونجح في تثبيت العملات، وقلل من التقلبات المفاجئة في أسعار الصرف. ولكن الواقع هو أن هذا الاستقرار المالي والنقدي كان نتيجة لاستقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية العالمية، التي كانت بدورها نتيجة لتحكم الدول العظمى في الاقتصاد العالمي. فلم يكن نظام الذهب السبب المباشر لاستقرار أسعار صرف العملات، بل كانت قوة بريطانيا العظمى بصناعاتها المتقدمة وتجارتها الواسعة وإمبراطوريتها التي لا تغرب عنها الشمس هي السبب الحقيقي لذلك الاستقرار.

فقد كانت الدول الأخرى ترى أن من صالحها المحافظة على سعر صرف لعملتها ثابت ومستقر، عن طريق ربطه بالجنيه الإسترليني، وكانت أسعار الحاصلات الزراعية والمواد الأولية في بورصات لندن أو ليفربول هي التي تحدد أسعار التسويق في العالم أجمع، وبالتالي أصبح الإسترليني هو المحدد لأسعار تبادل العملات في تعامل الأسواق العالمية والتجارة الدولية. وظل الأمر على هذه الحال طوال الفترة التي استطاعت بريطانيا العظمى خلالها أن تتحكم في أسعار المنتجات العالمية وتوجيه الاستثمارات البريطانية نحو المستعمرات لمد أسواقها وأسواق العالم بالمحاصيل الزراعية والمواد الأولية والمنتجات الصناعية، وقد أمكنها ذلك بقوتها العسكرية التي دعمت قوتها السياسية والاقتصادية.

لقد كان دور بريطانيا في الاقتصاد العالمي أكبر بكثير من احتياطيات الذهب في بنك إنكلترا، فتراكم الذهب فيه كانت نتيجة للاستقرار السياسي والاقتصادي الذي تمتعت به الإمبراطورية البريطانية، وليس سبباً لهذا الاستقرار، وكان استقرار صرف العملات نتيجة للاستقرار الاقتصادي والمالي في بريطانيا العظمى وتحكمها في أسواق المال باعتبار أن لندن كانت مركزاً للسوق المالي العالمي.

 

في القرن العشرين

وما إن بدأ القرن العشرون حتى دخلت دول أوربية أخرى حلبة الصراع على المسرح العالمي، ونافست بريطانيا العظمى في قوتها العسكرية واحتكاراتها الاقتصادية العالمية، مثل ألمانيا وفرنسا، وبدأت بريطانيا تفقد سيطرتها الكاملة على الأسواق العالمية التجارية، وبالتالي تزعزعت قدرتها في السيطرة على الأسواق المالية أيضاً نتيجة لبدء تراكم الذهب في ألمانيا وفرنسا.. بل أيضاً في العالم الجديد، أي الولايات المتحدة الأمريكية. بدأت هذه الدول الدخول في استقبال إيداعات الحكومات الأجنبية في بنوكها، وهذا الأمر كان حكراً خاصاً ببريطانيا وحدها.

وبدا في الأفق أن بريطانيا لن تستطيع الاستمرار في الجلوس على عرش التجارة والمال العالميين، وقد أدى هذا الصراع التجاري والمالي- مع غيره من الأسباب- إلى نشوب الحرب العالمية الأولى التي خلفت آثاراً اقتصادية ومالية عالمية لا يستهان بها. فرغم انتصار إنكلترا في تلك الحرب إلا أنها خرجت منها جريحة، مثلها في ذلك مثل الدول الأوربية الأخرى التي شاركت فيها. وقد ظهرت على المسرح العالمي بعدها عملة جديدة هي الدولار الأمريكي، وهذه العملة قويت في الخفاء خلال فترة الصراع الأوربي دون أن تحاول دخول حلبة الصراع ذاته. ففي خلال هذه الفترة أمكن الولايات المتحدة الأمريكية أن تستحوذ على نسبة كبيرة من الذهب في العالم، بلغت قبل الحرب مباشرة وعلى وجه التحديد عام 1910 ثلث الذهب النقدي لدى السلطات النقدية العالمية، فكان ذلك مثل السيف النائم في غمده يستله المقاتل عندما يجد الفرصة سانحة له للسيطرة على ساحة القتال. كذلك كان إنشاء البنك المركزي ومجلس الاحتياط الفيدرالي في الولايات المتحدة عام 1913 عملاً تنظيمياً دعم مركز الدولار كمنافس للإسترليني في أسواق المال والنقد العالمية.

وهنا حاولت الدول الغربية، بعد الحرب العالمية الأولى، العودة إلى نظام الذهب وأسعار الصرف الثابتة، ولكن التنافس الشديد بين العملات الغربية وخاصة بين الإسترليني والدولار أدى إلى تفكك السوق العالمية المعتمدة على الإسترليني، وظهر نتيجة ذلك العديد من مناطق العملات التي عرفت بمناطق العملات الخمس.

 

نظام العملات الخمس

نتيجة للصراع بين العملات الغربية للدول ذات القوة الاقتصادية (والسياسية والعسكرية) وتفكك السوق العالمية التي كانت تسيطر عليها وتحتكرها بريطانيا العظمى، ظهرت خمس مناطق رئيسية للعملات هي:

– منطقة الإسترليني، وتضم بريطانيا ومستعمراتها (فيما عدا كندا)، وبضع الدول ذات العلاقات التجارية والاقتصادية ببريطانيا.

– منطقة الدولار الأمريكي، وتضم الولايات المتحدة ودول أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية.

– منطقة الذهب: تضم فرنسا وسويسرا وبلجيكا وهولندا وإيطاليا وبولندا.

– منطقة المارك الألماني التي نشأت بالاتفاق بين ألمانيا النازية ودول أوربا الوسطى والشرقية.

– منطقة الين اليابان: وتضم اليابان ومستعمراتها والأراضي التي احتلتها في الشرق الأقصى.

والظاهرة الواضحة في هذه التجمعات هي تجمع الدول حول إحدى عملات دولة رئيسية قوية اقتصادياً وعسكرياً، هذا التجمع هو في الواقع نتيجة لتفكك السوق العالمية، ولهذا لم ينجح هذا الاتجاه في حل المشاكل الاقتصادية والمالية العالمية وظل الكساد الكبير في مرحلة الثلاثينيات جاثماً على الاقتصاد العالمي إلى أن بدأت الحرب العالمية الثانية.

 

نظام أسعار الصرف الثابتة

اجتمع مندوبو الدول الكبرى عندما انتهت الحرب العالمية الثانية في بريتون وودز عام1944 لمناقشة مشاكل العالم المالية والنقدية، وتقرر تفضيل إنشاء صندوق للنقد الدولي، بدلاً من إنشاء بنك مركزي عالمي، وكان هذا التفضيل مبنياً أساساً على أن دور التمويل الخاص والبنوك التجارية لايزال محدوداً، وقرر المجتمعون التعامل مع ثلاث مشاكل رئيسية هي:

– مشكلة التجارة الدولية: فقرروا تحريرها من قيود الجمارك والتعريفات والحصص عن طريق إنشاء المنظمة الدولية المعروفة باسم الاتفاقية العامة للتجارة والتعريفات (الغات).

– مشكلة التنمية والتعمير: فقرروا إنشاء البنك الدولي للإنشاء والتعمير والمعروف الآن اختصاراً باسم البنك الدولي.

– تثبيت أسعار الصرف: فقرروا إنشاء صندوق النقد الدولي.

ومن الطبيعي أن تتحكم الولايات المتحدة التي خرجت من الحرب منتصرة وباقتصاد قوي لم يدمر، وتسيطر في المنظمات الدولية الثلاث، وانعكس ذلك التحكم في تقدير قيمة الذهب بالعملة الدولارية على أساس سعر أوقية الذهب 35 دولاراً أمريكياً، وهذا يعني في الواقع أن جميع العملات رغم علاقتها بالذهب مرتبطة بالدولار، لأن الذهب مقوم بالدولار، وبذلك أصبح الدولار العملة العالمية.

العدد 1104 - 24/4/2024