خطوة إضافية لتأكيد الثِّقة بالنَّفس

إيناس ونوس:

يخرج كلٌّ منّا إلى الحياة العملية مليئاً بالآمال والتَّحديات والطُّموح بأنه سيُنجز ما لم يُنجزه غيره، ممتلكاً ربما بعض المعرفة النَّظرية من خلال حصوله على الشَّهادات العليا، واثقاً من أنه سيتعلَّم شيئاً فشيئاً بواسطة الخبرة العملية التي تبلور كل ما هو نظري فتحوِّله عملياً.

ويبدأ مشوار الحياة المهنية والعملية الطَّويل، مُتعثِّراً هنا، مُتميّزاً هناك، محكوماً بقوانين العمل السَّائدة ومتغيّراتها، إلى أن يصبح امتلاكه للمعرفة العملية جيداً، يأتي سن التَّقاعد والبدء من نقطة الصِّفر بمشوارٍ جديدٍ ونمطية حياة مختلفة تماماً بعد عمرٍ من العطاء والعمل والانشغال.

خلال سني العمل يخضع العامل أو الموظَّف للتَّقويم كل فترة، ليجري بناءً عليه إمّا محاسبته أو مكافأته، وبالطَّبع، وبما أننا في بلدٍ لا مكافأة توازي حجم العمل فيها، لم يتبقَّ إلاّ العقاب، ولهذا أوجه كثيرة ومتنوعة، بل إنها أول ما يتمُّ التَّعامل على أساسه سواء بحق أو بغيره. هذه العقوبات المتدرِّجة ابتداءً بالتَّنبيه وانتهاءً بالإقالة التي يُفترض أنها جزاء المقصِّر على ما ارتكب من جرمٍ بحق الصَّالح العام، تحتاج إلى قرار رسمي ممهور بالعديد من التَّواقيع والأختام، لكننا لم نسمع في بلادنا عن موّظَّف أو مسؤول قدَّم استقالته طواعيةً حينما وجد نفسه فاشلاً أو غير كفء. ونادراً ما نسمع عن إقالة فلان من النَّاس.

يعود ذلك لعدَّة اعتبارات، أولها أن لا قانون حقيقياً فعَّالاً يتابع هذه الأمور إلاّ عند محاربة الفساد الذي أمسى شعاراً يتمُّ التَّذرُّع به واستخدامه عند الحاجات الخاصَّة فقط، وليس كما يتمّ التعامل به في الدُّول المتحضرة، لأنه عندنا يخضع لأغنية (على ناس وناس يا دنيا)، بينما هناك فالكل خاضع لذاك المقياس دونما محسوبيات أو توازنات.

والاعتبار الثاني أننا لم نتعلّم امتلاك الجرأة والشَّجاعة بالاعتراف بالخطأ، ومن ثمّ تحمُّل مسؤولية العواقب النَّاتجة عمَّا قمنا به، بينما نسمع عن وزراء وأصحاب مناصب هامة في العالم الآخر قد تقدَّموا باستقالاتهم اعترافاً منهم بأخطائهم أو عدم قدرتهم على المضي في الطَّريق كما يجب، ما ينعكس بشكلٍ إيجابي على الصَّالح العام ويعود بالنَّفع على الجميع ويتمّ التَّعامل معه من منطلق الاحترام والتَّقدير والشُّكر، في حين أنه يخضع عندنا للسُّخرية والاستهزاء والفضيحة الطنَّانة.

كل هذا ناجمٌ عن طريقة تفكير مجتمعية كاملة متكاملة تبدأ بالنَّظرة الشَّخصية إلى الذَّات، وتنتهي بالنَّظرة العامة والمنظومة المجتمعية.

فالاستقالة ما هي إلاّ تعبير عن ترك المكان والمهام شاغرَين للآخر الذي يمتلك الأحقِّية الكاملة بامتلاكهما، منطلقاً من مبدأ التَّجديد في العمل واعتماد الطَّاقات الشَّبابية الأكثر تفتُّحاً وقدرةً على مجاراة التَّطوير من جهة، ومن الثِّقة بالنَّفس حين التَّقدُّم بقرار كهذا بعيداً عن المفاهيم البالية التي عفا عليها الزَّمان. وحتى نصل إلى هذه الدَّرجة من الوعي وتحمُّل المسؤولية ما علينا إلاّ أن نربي أبناءنا على الاعتراف بالخطأ وتحمُّل المسؤولية أولاً، وبأن الإنسان وحيداً لا يمكنه امتلاك كل المهارات معاً، بل هو بحاجةٍ للتَّعاون والاستعانة بالآخر. حين نمتلك هذين النَّمطين في التَّربية نصل إلى مستوى الدُّول المتقدِّمة، إن سُمِح لنا بذلك.

العدد 1105 - 01/5/2024